بنفسج

ابنةُ السِّجن وسيدة الانتظار اليتيم.. المحامية شيرين عيساوي

الأحد 05 فبراير

المرأة الفلسطينية المناضلة
المرأة الفلسطينية المناضلة

كنتُ على مشارف الانتظار، هذا الشعور الذي أعرفه جيدًا، حفظتُهُ وحفظني عن ظهر قلب، فكان اليقين يمسحُ على قلبي بحلو اللقاء، فبعدٍ يومٍ واحد سأكون في مطار البلاد، لأُكحلَّ عيني برؤية حبيبي مدحت. هل تعرفون أن هذا الحضن: سيكون هو الأول بعد ثمانِ سنواتٍ من الحرمان؟! آه يا مدحت لو تدري نار قلبي! وصلتُ المطار، وكلُّ حبيبٍ يبحثُ عن حبيبهِ إلى أن أبصرتُ تلويحة أمي وأبي، لكن ماذا عن مدحت؟! أين مدحت يا أُمِّي؟! سألتُ وأنا أدعو: ياربَّ اللقاء أكرمني، ياربَّ السماوات، فقلبي اتَّسع شوقًا لأجل هذه اللحظة. اليوم نستبصر حكاية المرأة الفلسطينية المناضلة، في أبعاد جديدة، متكررة، مستمرة، لا تنضب في عطائها.

"اعتقلوا أخاكِ مدحت بالأمسِ يا شيرين" قالتها أمي وهي تخفي دموعها لِتهوِّنَ عليَّ وجع الخبر. شعرتُ بضيقٍ يلفُّ حول عنقي يخنقني، تبعثر حُلمي كما كل مرة، وللسبب نفسه "اعتقال". كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يتربَّصون لي من بعيد، فبعد دقائق معدودة جاءني مجموعة من شرطة المطار ليقتادوني إلى غرفة التحقيق برفقة ابني الرَّضيع إيهاب. عشنا معًا تحقيقًا قاسيًا استمرَّ لساعاتٍ طويلة. والتُّهمة عودة الأسيرة شيرين عيساوي مع طفلها البالغ من العمر عامًا واحدًا فقط إلى فلسطين!

عميدة الأسيرات الفلسطينيات

المرأة الفلسطينية المناضلة
هي أختُ الأسرى، وابنة الأسير والأسيرة، وأختُ الشَّهيد أيضًا، فكيف لا تُلقَّب بالفتاة القوية؟! فهذا اللقب الذي حظيتْ به شيرين مذ أن فتحتْ عينيها على جنود الاحتلال وهم يعتقلون ويقتلون وينكلون. عاشتْ على سيرةِ والدها الذي اعتُقل وهُدِّد، وكبُرتْ بصوت أمها وهي تُحدِّثها عن اعتقالها وهي على رأس عملها في قسم التَّمريض.
 
بدأتْ شيرين مسيرتها في المُظاهرات والاعتصامات والحديث باسم الأسرى والأسيرات الفلسطينيات. وهذا ما دفعها لدراسة المُحاماة في جامعة القدس، واستكماله بأبحاث الماجستير في جامعة بيرزيت.

هنا القصة بلسانِ الأسيرة المحررة، والمحامية المقدسية، نموذج المرأة الفلسطينية المناضلة، شيرين العيساوي، لم تكن هذه البداية، ما سبق كان جزءًا صغيرًا من تفاصيل حكايةٍ طويلة، بدايتُها من أيام الثورة، فعائلة عيساوي كان لها باعُ نضالٍ طويل سُطِّر في ناصية كتابِ التاريخ. فالعزَّة التي تراها في عيون شيرين وهي تقفُ أمام القاضي في المحكمة، غير آبهةٍ لتهديداته، تجعلُك تعرف جيدًا من أيِّ عائلةٍ خرجت هذه القوية.

فجدُّها أحمد عيساوي، أحد قادة الثوار الذين حُكِمَ عليهم بالإعدام، لكنَّه تمكَّن من الفرار. وعمُّها الشهيد أسامة عيساوي الذي ترك مقاعد الدراسة في أمريكا والتحقَ بصفوفِ المقاومين في جنوب لبنان، ليمضي شهيدًا بعد تنفيذه عملية استشهادية راح فيها قتلى وجرحى في صفوف الاحتلال الإسرائيلي.

المرأة الفلسطينية المناضلة

هي أختُ الأسرى، وابنة الأسير والأسيرة، وأختُ الشَّهيد أيضًا، فكيف لا تُلقَّب بالفتاة القوية؟! فهذا اللقب الذي حظيتْ به شيرين مذ أن فتحتْ عينيها على جنود الاحتلال وهم يعتقلون ويقتلون وينكلون. عاشتْ على سيرةِ والدها الذي اعتُقل وهُدِّد، وكبُرتْ بصوت أمها وهي تُحدِّثها عن اعتقالها وهي على رأس عملها في قسم التَّمريض. بدأتْ شيرين مسيرتها في المُظاهرات والاعتصامات والحديث باسم الأسرى والأسيرات الفلسطينيات.


اقرأ أيضًا: حضنٌ وقبلة.. من يؤتِي تأويلَ حلم الأسيرة فدوى حمادة؟


وهذا ما دفعها لدراسة المُحاماة في جامعة القدس، واستكماله بأبحاث الماجستير في جامعة بيرزيت، والعمل في القضايا التي تخص الأسرى الفلسطينيين بشكلٍ عام والأسرى الأطفال بشكلٍ خاص. كان الاحتلال يُدركُ صوتَ شيرين الفعَّال، ويلمسُ العزيمة التي تزرعها في داخل كلِّ أسيرة، ومن هنا بدأت رحلة شيرين الاعتقالية.

مسيرة المرأة الفلسطينية المناضلة

شيرين ومدحت.jpg
شيرين العيساوي وشقيقها مدحت

فقط في فلسطين، يصبح المحامي أسيرًا وبحاجةٍ إلى محام آخر ليُدافعَ عن قضيته. اعتُقِلتْ شيرين لمراتٍ عديدة، كان أولها عام 2010، وعلى إثر نشاطها في مُساندةِ الأسرى حُرِمتْ من ممارسة عملها كمحامية لمدة عامين. وما بين اعتقالٍ وحبسٍ منزلي، لم تعد شيرين تحسب عدد المرات التي حُكِمت فيها. لكنَّها تستذكر معنا أطول فترة اعتقال عام 2014، عندما اقتحم جنود الاحتلال بيت أهلها في بلدة العيساوية شمال شرق القدس، وسحبوها عنوةً إلى مركز التحقيق.

كانت التهمة حينها هي تقديم خدمات ومعلومات أمنية للأسرى الفلسطينيين. حُكِم على شيرين بالسجن لمدة 45 شهرًا. وفي الوقت ذاته اعتقلتْ سلطات الاحتلال أخاها شادي الذي أُطلِق سراحه فيما بعد بكفالةٍ مالية، وأخاها مدحتْ الذي حُكم بالسجن لمدة 8 سنوات دون تهمة مباشرة.

المرأة الفلسطينية المناضلة

"لم يكن أمرًا جديدًا عليَّ"، هذا ما اعترفتْ به شيرين وهي تُقلِّبُ أوراق السجن المريرة، وتابعت حديثها: "كانتْ الغصَّة في قلبي على أمي وأبي أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، فمنذ أكثر من 30 عامًا لم يُكتب لنا لقاءٌ واحد، نجتمعُ فيه معًا كأُسرة دافئة، فإن كان مدحتْ حُرًّا، كنتُ أنا أسيرة، وإن كنَّا أحرارًا، كان أحُدنا مُبعدًا، أمَّا هذه المرة كنتُ أنا ومدحت وأخي سامر الذي حُكِمَ بالسجن لمدة عشرين عامًا".

كانت شيرين تمثِّل "الدينمو" الحقيقي أمام كل ما يتعلق بقضية الأسرى الفلسطينيين، ففي المرة التي خاض فيها أخوها الأسير سامر عيساوي الإضراب الأطول عن الطعام عام 2013، كانت تقفُ شيرين خلفه تردد "سنشدُّ عضدك بأخيك"، لتقودَ حملات إعلامية كبيرة وصلَ صداها إلى المجتمعات الدولية، ليُوافق الاحتلال على إطلاق سراح سامر.

اختارتْ شيرين أن تكون تجربة السجن شيئًا مختلفًا عمَّا كانتْ تفعله، فتحوَّلت معركة الدفاع إلى شدِّ عزيمة ورفع معنوية للأسيرات الفلسطينيات. فكانت تُشجعهن باستمرار على إكمال دراستهنَّ والالتحاق بالثانوية العامة، وبالفعل تحقق وعدُ شيرين بعد أن طالبتْ العديد من الجهات بتسهيل خطوات تقدُّم الأسيرات لامتحانات الثانوية العامة. شعرتْ شيرين أن محنةَ الأسرِ تحوَّلتْ إلى منحة إلهية، لترى كل ما كانت تسمعه، لتصبحَ القضية جزءًا مُرتبطًا بداخلها، تعيشُ تفاصيله عند نومها وأكلها وشربها حتى عند فرحها.


اقرأ أيضًا: سماح محاميد: مرابطة مقدسية برتبة "العنيدة"


أُطلِق سراح شيرين عام 2017، بعد أن أمضتْ ما يقارب ثلاث سنوات ونصف، وبمجرد خروجها باشرتْ مهمتها، لتفي وعدها أمام أخواتِها الأسيرات بالدفاع عنهن مهما كلَّفها الأمر من سنواتِ أسرٍ جديدة. كانت شيرين تمثِّل "الدينمو" الحقيقي أمام كل ما يتعلق بقضية الأسرى الفلسطينيين، ففي المرة التي خاض فيها أخوها الأسير سامر عيساوي الإضراب الأطول عن الطعام عام 2013، كانت تقفُ شيرين خلفه تردد "سنشدُّ عضدك بأخيك"، لتقودَ حملات إعلامية كبيرة وصلَ صداها إلى المجتمعات الدولية، ليُوافق الاحتلال على إطلاق سراح سامر، والذي أعيد اعتقاله مرة ثالثة في نفس العام الذي اعُتقلت به شيرين.

ذكرياتُ شيرين مع الأسرى

المرأة الفلسطينية المناضلة
شيرين العيساوي مع عائلتها

من سيرةِ شيرين كأسيرة إلى طريقها كمُحامية أسرى، ما هي أبرز الذكريات التي حُفِرتْ في داخلك؟! لم تأخذ شيرين وقتها لتفكر في سؤالي، وكأنَّ ما ستقوله ليس في ذاكرتها فقط، بل في وجدانِها وكيانِها. بنفسٍ عميق سردتْ شيرين مواقفَ مؤثرة عاشتها مع بعض الأسرى : "كوني محامية لا يعني أني كنتُ أتجرَّدُ من المشاعر أمام الأسرى، لكن بعض المواقف كانت قهرًا في داخلي، ففي المرة التي كنتُ مجبرةً على مُقابلة ناصر عويس وإخباره أن أمه قد توفيت، حبستُ دموعي حتَّى تحشرج صوتي.

 لم أجد أي مواساةٍ تطبطبُ على كتفه، شعرتُ بالعجز حينها". أخذتْ شيرين وقتَها لتستعيدَ صوتَها، فهذه ذكرى ليست بالشيء الجميل الذي يحنُّ القلب لنبشهِ بين فترةٍ وأخرى. تابعت حديثها قائلةً: "لكن لا يمكن أن أنسى سعادتي وأنا أسمع دعاء جمال أبو الهيجا في نهاية كل زيارة "الله معك يا بنتي"، أو دعاء والدي عبدالله البرغوثي وهو يراني أنتقلُ من قضيةِ أسيرٍ لآخر. كنتُ ألمسُ نخوة الرجل الفلسطيني وأنا أرى ناصر أبو حميد وهو يسألني بمجرد دخولي: "هل ضايقكِ السجانون؟ هل عاملوكِ باحترام؟".

1-40.jpg

كلُّ هذه المشاعر كانت كفيلةً أن تجعل شيرين أخت كل الأسرى الفلسطينيين، أن تفرحَ لفرحهم، وتحزن لوجعهم، أن تزورَ عوائلهم وتواسي أمَّهاتهم وكأنَّهن أمّها. هؤلاء الأسرى الذين دقُّوا جدار الخزَّان أمام العالم ليبصروا عدالةَ القضية الفلسطينية.

القدس التي تسكنني

المرأة الفلسطينية المناضلة

غادرتْ شيرين إلى اليونان في المرة الأولى وقلبُها يبكي القدس، لكنَّها أقدارُ الحياةِ. كان الاحتلال يحاول أن يُبعدَها قسرًا عن القدس. فمنعوا طفلها "إيهاب" من دخول القدس. لم تترك شيرين طريقًا إلَّا وسعتْ إليه لتجتمع بابنها. بعد جهودٍ عديدة وتدخلاتٍ كبيرة، خطى الصغير إيهاب خطواته الأولى في ساحات القدس العتيقة. وما بين مغادرةٍ وعودة، عادتْ شيرين إلى القدس مرةً ثانية عام 2019.

أترى كيف يركضُ الطفلُ لحضنِ أمه؟! هكذا عادت شيرين لا تُصدِّق أنّها تتنفسُ الآن هواء القدس، وتشربُ من مائها. هذه المرة كبُرتْ العائلة، فجاءها المخاضُ بـليلى، لتُمنحَ في شهادةِ ميلادها كرامة الولادة في القدس.


اقرأ أيضًا: مرح باكير: عين أمُها التي اعتُقِلتْ طفلة


كلُّ ما في القدس كان ينادي شيرين للاستقرار في ساحاتها، لقطعِ حبالِ الغربة، فالقدس أيضًا كانت تشتاقُ لصوتِ شيرين وهي تصدحُ بحرية الأسرى عند كل اعتصام. وها هي شيرين، تعودُ ثانية، تُلبِّي نداء الشوق، أُمًّا حنونة، ومُقاتِلة شرسة، والمحاميةً التي تحفظُ مواثيق الكرامة التي كتبتْها بمسيرة كل الأسرى الفلسطينين، والمرأة الفلسطينية المناضلة. تعودُ ثانية تنتظر أن يُجمع شملُها بإخوانها، بلقاءٍ طويل، دون إبعادٍ أو اعتقال من جديد. لم تنتهِ الحكاية مع "بنفسج"، فالنهايةُ ستُسردُ في حوارات التحرير القريب.