بنفسج

رمضان بلا مساجد

السبت 13 يونيو

انقضى رمضان أكثره، وربما ينقضي كلّه، والمساجد في فلسطين مغلقة، ولعلّ هذا الحال في غيرها من البلاد، التي رأى صنّاع القرار فيها أنّ إغلاق المساجد إجراء وقائيّ لا بدّ منه في سياسات مواجهة جائحة كورونا، وساندتهم في ذلك فتاوى، من جهات متعدّة، تَنازَعها، أيْ تلك الفتاوى، الأخذ والردّ، إلى أنْ استقرّ القول على إغلاق المساجد عند الأكثرين، وهو القول الذي لم يلبث أن تنازعت الآراء فيه مجدّدًا، مع طول الوقت، وغياب الأفق، وعودة الناس للانبثاث في الأسواق، متخلّصين من مخاوفهم التي غزتهم أوّل الجائحة.

بعيدًا عن ذلك السجال، وعن إطباق هيمنة الدولة الحديثة على المجال العام، بما في ذلك دور العبادة، يبقى السؤال عن البلاد بلا مساجد، وهو سؤال تصير له خصوصيّة إذا أُطلِق في رمضان لخصوصية رمضان نفسه. قضية المسجد في بلادنا، باستطاعتنا النظر لها من زاويتين، زاوية فرديّة، وأخرى عامة، فالفرديّة هي العلاقة الخاصّة التي تجمع بين الفرد المسلم المتعلق بالمسجد وبين المسجد، وقد جاءت الرواية الشريفة عن الرجل المعلق قلبه "في المساجد"، دلالة على الملازمة وكأنّ المسجد يستنير بروّاده، وجاءت بلفظ "معلق بالمساجد" دلالة على الشغف والمحبّة، وكأنّ الحبّ أصل النور، والحبّ الصادق ملازم، وبذلك تتحوّل المساجد بأهلها منارات للهداية، وهكذا تتصلّ القضيّة الفرديّة، علاقة الشغف الخاصّة، بالقضيّة العامّة، قضية الهدايّة العامّة بنور المساجد.

 | علاقة مركبة بالمسجد

لا تقتصر القضيّة العامّة على المعنى الديني المباشر، وإنّما تُسهم في صياغة المعنى الوجودي للفرد في بلادنا، حتّى لو لم يكن من المعتادين ارتياد المساجد، فقد نشأ وكَبُر والمسجد في قلب وجوده الفيزيائي، يتّصل به يوميًّا بحاستيّ السمع والبصر.
 
ولا يخلو أمره معه من اتصال أكثر قربًا، في الجُمَع عند بعضهم، معتادة أو متفرقة، أو في رمضان. ومن يقطع المسجد كلّيّة، ندرة في الناس، وتلك الندرة، متّصلة بالضرورة بالمسجد بحكم وجوده والأصوات المنبثّة منه

لا تقتصر القضيّة العامّة على المعنى الديني المباشر، وإنّما تُسهم في صياغة المعنى الوجودي للفرد في بلادنا، حتّى لو لم يكن من المعتادين ارتياد المساجد، فقد نشأ وكَبُر والمسجد في قلب وجوده الفيزيائي، يتّصل به يوميًّا بحاستيّ السمع والبصر، ولا يخلو أمره معه من اتصال أكثر قربًا، في الجُمَع عند بعضهم، معتادة أو متفرقة، أو في رمضان، أو في الأعياد، أو صلوات الجنائز، أو في حالات الإقبال المتقطّعة، أو في طلعات الطفولة والشباب قبل الانحراف في مسارات أخرى.. وهكذا.. ومن يقطع المسجد كلّيّة، ندرة في الناس، وتلك الندرة، متّصلة بالضرورة بالمسجد بحكم وجوده والأصوات المنبثّة منه، فيصير المسجد بذلك جزءًا من وجودنا حتّى لو قصرت علاقة بعضنا به عن الارتياد المباشر.

هذه العلاقة المركّبة بالمسجد تُظهر عُمقًا، في معنى وجود المسجد، لا يشفّ إليه مجرّد النظر الخارجي للبنية الهندسية للمسجد.  وإنّما فليُنظَر إلى وجودها الدائم في حيّزنا المكاني، ثم رفقتها غير المنقطعة لأعمارنا منذ حمل آبائنا إليه أطفالاً أو جريان صوت الأذان والتلاوات والصلوات في أسماعنا منذ الحبو الأوّل، حتّى يُصلَّى علينا فيه، فيغنم المصلّون قراريط الأجر كما في الحديث.

ويُرجى بذلك أن يشفّعوا في ميّتهم، وهكذا يتفتّح الوعيُ في أوّله على موقع المسجد، ثمّ يكون بوابة النجاة الأبديّة، بيد أنّه وبالإضافة إلى هذا الالتحام الوجودي، في الحضور الإنساني ومآلاته، تبقى تلك العاطفة الخفيّة التي ينشئها الاعتياد، ويحجبها الاعتياد، فهو جزء من حياتنا، حتّى في حياة من لم يدخله، ينقطع عن مدرسته وجامعته وعمله، ولكن يبقى المسجد شاخصًا وحاضرًا لا في حواسّه فحسب، بل في منظومته الاجتماعية، وهذا الاعتياد عينه قد يحجب الإدراك عن موقع المسجد من حياة الفرد، موقعه من حيث كونه جزءًا أساسيًّا في حياة ساكن هذه البلاد.

لم تنعدم المساجد بإغلاقها في جائحة كورونا، فهي شاخصة بهيئتها، ويُرفع منها الأذان يوميًّا، ولكنها بلا مصلّين، وهذا هو التعبير الأدقّ، الذي يحيلنا إلى الزاوية الأولى في العلاقة بالمسجد، زاوية الارتياد الفردي، والعلاقة التبادليّة، بالتعلّق القلبي، استنارة القلوب بمحبّتها للمساجد، واستنارة المساجد بملازمة القلوب لها، ملازمة ماديّة بارتيادها الدائم، وهكذا فالمساجد بخلوّها من المصلّين تفقد شيئًا من فاعليتها في الاستنارة والهداية، وهو أمر أشدّ ظهورًا في رمضان، لأنّ الناس من جهة أكثر التزامًا لها، ومن جهة أخرى يختصّ رمضان بصلاة التراويح، التي تمنح الشهر المزيد من المزايا بما يجعل الإحساس برمضان مختلفًا عنه بالشهور الباقية، ولذلك أثر اجتماعيّ عامّ يستغرق الجميع من ناحية، وأثر خاص يجري في الروح من ناحية أخرى، ومن ذاق عَرَف.

والمعتادُ الارتيادَ، المستنير والمُنير، أكثر توغّلاً في هذا الإحساس، فيومه مضبوط على نداء المساجد، ووقته منظّم على أوقات الصلوات، يُصلّي مغربه في رمضان في المسجد قبل أن يلتحق بمائدة الإفطار مع بقيّة أهل البيت، وينزع نفسه من بينهم بعد وقت قصير ليشهد التراويح وجموع أهل بلده أو حيّه أو معارفه في المسجد، ليضبط صحوه في اليوم التالي، لا على السحور فحسب، بل وعلى صلاة الفجر في المسجد، وهكذا يُشكّل المسجد قطب الرحى، ومركز دائرة حياة باعتبارات متعدّدة، إلا أنّ أعظمها أنّه علامة العبودية لله تعالى، وهكذا يكتمل معنى الوجود.