بنفسج

المدارس المستقلة: مدارس مرتبطة بالمجتمع

الإثنين 08 يونيو

كان أول سؤال سألته حين وصلت نيوزيلاند هو؛ عن نظام المدارس، فكان الجواب: يعتمد! فسألت: يعتمد على ماذا؟ الجواب: يعتمد على سياسة المدرسة، فلكل مدرسة نظامها! احتجت عاما لاستوعب هذه الفكرة، فالمدارس عندنا في فلسطين بشكل عام، تعمل بشكل متشابه. فجميع المدارس "باستثناء بعض مدارس القطاع الخاص، تتبع وتلتزم بقوانين ونظام مقر من وزارة التربية والتعليم. نفس المنهاج والكتب المدرسية؛ نفس المواد الدراسية وتوزيع الحصص، وإن اختلفت الجداول. نفس الأهداف المعلنة لكل درس ووحدة، ونفس مخرجات التعلم المتوقعة. نفس مقترح التحضير للمعلمين وإن خالفه البعض؛ سواء بتحسينه أو إهماله. نفس نظام التقييم والامتحانات وتوزيع العلامات وإن اختلفت الأسئلة. نفس الميزانية، نفس الزي، نفس وقت الحصص. فيكفي أن تعرف مدرسة لتعرف كل نظام التعليم في البلد.

نظام مريح للفهم والتطبيق، لا يحتاج من المعلمين والمدراء إلا الاستيقاظ مبكرا والانطلاق فورا للتطبيق، ولم لا؟ فالمفكرون والخبراء في وزارة التربية والتعليم تولوا عناء وضع السياسة التربوية الموحدة للمدارس، تلك المهمة المرهقة والصعبة والمستنزفة للوقت والجهد والتفكير. كما أنه يعطيك شعورا بالتوزيع العادل للفرص والإمكانيات، فالكل سواسية والكل يعطى نفس المواد بنفس القدر، ويمتحن بنفس الطريقة، وبالتالي؛ فالعدل والمساواة تطبق على الجميع. أليست هذه منطلقات ودوافع النظام المركزي للمدارس عندنا؟ أليست هذه الحجج الوردية التي تبدو مقنعة وكفيلة بأن تسكت أي معترض؟ حسنا أعتقد أنّ معظمنا لمس الحالة الوردية تلك بشكل محدود جدا خلال 12 سنة دراسية في حياته، في حين أن معظمنا لا يعرف إلا الحالة الرمادية إن لم تكن السوداوية الدائمة، والسائدة لهذا النظام.

| تحدي النموذج المألوف

1541135337431.jpg
تعلّم تشاركي في مدرسة Rāroa Normal Intermediate النيوزيلندية

في نيوزيلاند، يعتمد نظام المدراس الحكومية على فلسفة المدراس المستقلة، أي أن لكل مدرسة حق اختيار منهاجها الخاص الذي يعكس فلسفتها التربوية، وما يترتب عليها من أهداف، وسياسات تربوية. فتجد تنوعا كبيرا في المناهج التي تتبعها المدارس. وعادة يتولى إقرار منهاج كل مدرسة القيادات التربوية في المدرسة، "المدير والمعلمين، وأيضا أعضاء منتخبون من الأهالي أو المجتمع المحلي؛ لتلبي المدرسة احتياجات ورغبات السكان في كل حي أو منطقة.

النظام النيوزلنديّ خلق تنوعا فريدا، فمثلا هناك مدارس تتضمن مناهج خاصة، مرتبطة بثقافة السكان الأصليين "الماوري". اشتغل عليها وما يزال، عدد غير قليل من أساتذة الجامعات والباحثين، وتركز على الثقافة المرتبطة بطبيعة للسكان الأصليين لنيوزيلاند. هناك مدارس اختارت فلسفة معينة مثل: المنتسوري أو والدروف. وهناك مدارس دمجت عدة توجهات معا مثل التعلم بالمشاريع “Project based learning” أو التعلم بالاستقصاء والبحث "Inquiry-based learning".

برغم أن الرياضة هنا تمارس بشكل كبير جدا في جميع المدارس، إلا ان هناك مدارس تركز على أنشطة رياضية معينة، وتشكل لها فرقا متخصصة، أو توفر مسابح أو ملاعب مخصصة لتلك الرياضات. هناك مدارس تركز على العلوم والرياضيات؛ فتختار مناهج معينة، وتبني مختبرات متخصصة، وتشارك في مسابقات محلية ودولية في العلوم والرياضيات. وهناك مدارس تركز على التفاعل الثقافي لطلبتها، فتهتم بالفعاليات الثقافية وأنشطة تعبر عن إبراز الهوية الثقافية، والتنوع الثقافي لكل مدرسة [1]. هذه المدارس تكون مثلا بجانب الجامعات حيث الأهالي طلبة من دول مختلفة أو من منطقة يكثر فيها المهاجرون [2].

في نيوزيلاند، يعتمد نظام المدراس الحكومية على فلسفة المدراس المستقلة، أي أن لكل مدرسة حق اختيار منهاجها الخاص الذي يعكس فلسفتها التربوية، وما يترتب عليها من أهداف، وسياسات تربوية. فتجد تنوعا كبيرا في المناهج التي تتبعها المدارس. وعادة يتولى إقرار منهاج كل مدرسة القيادات التربوية في المدرسة، "المدير والمعلمين، وأيضا أعضاء منتخبون من الأهالي أو المجتمع المحلي؛ لتلبي المدرسة احتياجات ورغبات السكان في كل حي أو منطقة.

من أبرز حسنات هذا النظام؛ أنه يخلق مسؤولية مبنية على الثقة، ليس فقط عند المدراء ومعلمي المدارس، وإنما أيضا عند الأهالي والمجتمع المحلي. فالكل عليه أن يفكر ويعمل ويساهم، من أجل مصلحة أبناء الحي أو المنطقة، والتعبير عن طموحاتهم. كما أنه يدفع كل مدرسة إلى بناء هوية خاصة تسعى فيها، للحفاظ على سمعتها وتعزيز الانتماء لها. هذا النموذج أيضا يفتح مجال التعلم من تجارب الآخرين، أكثر من كونه يخلق تنافسا؛ فتجد كل مدرسة تحاول أن تبذل جهدا ما، لتقدم نموذجا يتعلم منه الآخرون.

وبالرغم من أنه لا يوجد هنا مديريات تعليم لكل منطقة، إلا أنه توجد مبادرات لتجمع عدة مدارس للتعاون فيما بينها في السياسات، والأفكار والتجارب وحل المشكلات المشتركة. في عالم المدارس هنا، عمل دؤوب لكنه متجدد ويسمح بالإبداع والتغيير والتجربة. طبعا هذا لا يعني عدم وجود مشترك بين هذه المدارس، ففي النهاية هناك المنهاج العام الذي تحدثت عنه في المقالة السابقة.

لكن كما هي طبيعة الأمور، لكل نموذج تحديات تواجهه، سأذكر ثلاثة منها:

| أولا؛ التحدي المادي: فالكثير من المدارس تبذل جهودا كبيرة لتوفير التمويل اللازم، سواء لتأهيل المعلمين وفق خطتها، أو توفير المستلزمات. فبشكل عام كل المدارس لها مخصصات من الحكومة، كما أن المدارس الموجودة في المناطق الأقل حظا؛ اقتصاديا او اجتماعيا، تحظى بدعم أكثر. ولكن يظل المشروع التربوي أيا كان، بحاجة لتمويل إضافي. هناك مدارس مثلا تؤجر قاعاتها وأراضيها وملاعبها لجهات خارجية، مثل: الأندية أو الأسواق الشعبية، ومعظم المدارس أيضا تطالب الأهل بتبرعات سنوية، والتي عادة ما تكون مصدر دخل ممتاز في المناطق الغنية التي يقطنها سكان ذوي دخل مرتفع. معظم المدارس تجري فعاليات لجمع التبرعات للمدرسة، مثل: "اركض لنا" و"أنشطة مسرحية"، و"البازارات".  كما تعمل بعض المدارس على بناء أشكال من التعاون مع مؤسسات تجارية وخيرية داعمة، تقدم لها التبرعات والخصومات.

| ثانيا؛ جودة المدارس: تعد جودة المدارس من التحديات الكبيرة، وهو ما يفسر وجود هيئة في الحكومة، مهمتها مراقبة جودة كل مدرسة ودراسة أهدافها، وتقييم سياستها وأدائها ونتائج طلابها. وتصدر تقارير هذه الهيئة بشكل علني، يمكن لأي شخص أن يقرأها من الموقع الرسمي الحكومي [3].

 ثالثا؛ التحديات الشخصية الخاصة:  مثل أن اختيار المدرسة مرتبط بمكان السكن، فقد تعجبك مدرسة ما، ولكنك تسكن في منطقة خارج نطاقها، وبالتالي لا تستطيع إدخال أولادك إليها إلا إذا غيرت موقع سكنك. بالإضافة للتحديات التي تواجه أي نظام تعليمي بشكل عام.

| التغير في مفهوم المدرسة

HardTechLearning.jpg
أحد الصفوف في مدرسة "Newlands" النيوزيلندية المتوسطة

من أهم التغيرات التي طرأت على مفهوم المدرسة عندي، هو أنه ليس شرطا أن تكون جميع المدارس نسخاً متكررة طبق الأصل، لنماذج معلبة مصنعة في وزارات التربية والتعليم. في السياق الفلسطيني الذي أعرفه على سبيل المثال، ليس شرطا أن تكون مدرسة في قرية من قرى جنين، يحتاج سكانها لتعلم حل مشكلات يومية وملحة، متعلقة بالزراعة ومصادرة الأراضي. أن تكون مثل مدرسة في مدينة بيت لحم، تعد دراسة التاريخ والإرث الحضاري جانبا حيويا وهاما من اقتصاد المدينة السياحي وإرثها الاجتماعي. ومن المنطقي والمعقول والمفيد جدا أن يكون تركيز مدرسة على ساحل بحر غزة مرتبطا بدراسة البحر والرياح والكائنات البحرية، وتعلم مهارات السباحة والصيد. وأن يكون تركيز مدرسة في جبال نابلس، على زراعة الزيتون والصناعات المرتبطة بزيتها. وأن يكون تركيز مدرسة في المخيم، على حل مشاكل الاكتظاظ وهندسة المساحات الصغيرة. وفي نفس الوقت يرتبط الجميع بمنهاج يعزز الصمود على الأرض والحفاظ عليها.

هذا النموذج لا يحافظ فقط على الهوية الثقافية للسكان المحليين، وتعزيز الانتماء إليها، وإنما أيضا يساعد في تعلم حل مشكلاتهم اليومية والمستقبلية، واستغلال الموارد من حولهم. إنه يجعل التعلم ذا معنى، ومرتبطا بحياة الناس وآمالهم وطموحاتهم. إنه يجعل المدرسة مجتمعا محليا مصغرا، يجهّز الطلبة غداً للبقاء والنمو والتطور، وليس سجنا يقضي فيه الطلبة ساعات أمام أشياء لا يفهمونها، وإن عرفوها لا يفهمون علاقتها بحياتهم، ولا يستطيعون استثمارها في حياتهم لا اليوم ولا غدا.  

قد يكون من الترف وغير المنطقي أو الممكن، الحديث عن تطبيق هذا النموذج كما هو في مجتمعاتنا الآن، فأنا في الأصل ضد سياسة "النسخ واللصق"، وضد الحلول الفورية في التعليم. ولكن من الجيد أن يكون ذلك في البال، حين نفكر في معنى المدرسة، وكيف يمكن أن تكون حين نخطط لبناء نموذجنا الخاص بالتعليم، في يوم من الأيام.


| قائمة المراجع والمصادر 

(1) Newlands Intermediate School

(2) Rāroa Normal Intermediate School

(3) Education Review Office