بنفسج

مناهج بلا كتب.. والطلبة خلية نحل تبحث عن المعرفة

الإثنين 08 يونيو

في إحدى المرات، كنت أتحدث مع صبي من عائلتي، في حدود الثالثة عشرة من عمره، ممن نشأ وتعلم في المدارس النيوزيلاندية. وفي معرض الحديث، تحدثت عن الكتب المدرسية في بلادنا، وتعجبي من عدم وجودها في نيوزيلاند، فباغتني قائلا: "الحياة لا يوجد بها "Textbooks" (كتب مدرسية)، في الحياة علينا دائما البحث والقراءة من عدة مصادر لنحصل على المعرفة".

عندما أذكر أمام أي شخص في بلادنا كلمة "مناهج"، فإن أول صورة تخطر بباله هو "الكتب المدرسية". ناقش مع أي معلم أو تربوي في بلادنا "المناهج"، فإنه سيحدثك بلا انقطاع عن كتاب العربي، أو كتاب الرياضيات، أو العلوم المقرر من قبل وزارات التربية والتعليم. ظل هذا المفهوم راسخا في ذهني، حتى درست مساق "تصميم المناهج" في مرحلة الماجستير في جامعة بيرزيت، وبدأت وقتها بالتعرف على مفاهيم وأنواع المناهج في العالم. ويمكن القول بأن أهم خاصية لأي منهاج هي وجود أهداف، ولتحقيق هذه الأهداف توجد عدة مسارات، وحتى لا أدخل في تعقيدات تلك المسارات، سأتحدث عن مسارين اثنين.

ماذا سيحدث إذا لم نطبع تلك المناهج المدرسية، وبدلا من ذلك نوفر 300 كتاب لكل صف، يحوي معارف وعلوما وأدبا منوعاً، يقرؤها الطلبة على مدار السنة؟ ما هي الحصيلة المعرفية واللغوية التي يمكن أن يحصل عليها الطلبة، في حياتهم الدراسية بوجود مكتبة في كل صف؟

الأول "ويعرفه معظمنا" هو أن تتولى وزارات التربية والتعليم فرض رؤية موحدة، تلزم جميع المدراس بتبنيها وتطبيقها، وتكون عادة مليئة بالتفاصيل والتعليمات، مثل: تحديد المواد الدراسية وتوزيع حصصها، وتأليف كتب مدرسية يلتزم الجميع بنصوصها، والقيام بتحضيرات؛ كتجهيز أدلة المعلمين في كيفية تدريسها، وطبعا طرق تقييمها من امتحانات وتوزيع علامات.

وعدا عن كون هذه الرؤية مفروضة وملزمة للجميع، فإنه يتم أيضا تدقيق ومراقبة تطبيقها بشكل حثيث في الغالب. المسار الثاني؛ هو أن تحدد وزارات التربية والتعليم الأهداف والخطوط العريضة، وتترك عملية التطبيق للمدارس والمعلمين. هذا المسار قرأت عنه، ودرسته "وقدمت فيه امتحانا أيضا"، ولكن لم أستطع أبدا أن أفهمه حتى رأيته في نيوزيلاند.

| تحدي التصور المألوف للمنهاج

kakapo-6pyi4dp6lq_girl_reading_library_17138.jpg
 

يذهب أولادي الى المدرسة لا يحملون في حقائبهم أي شيء، سوى علبة الغداء، وأحيانا ملابس الرياضة أو السباحة. فكرة عدم وجود كتب محددة يدرس منها الأولاد، كانت من أصعب الأمور التي كان عليّ استيعابها. كيف يعني؟ وماذا عن المواد الدراسية؟ أين العلوم؟ أين الرياضيات؟ أين كتب اللغة؟ كتب الاجتماعيات؟ كان أبنائي في الوطن يدرسون على الأقل 9 مواد، 6-7 منها لها كتب "الرياضة والفن عادة لا كتب لها". أين الكتب؟ أين المناهج؟

كان الجواب هو أن المنهاج النيوزيلاندي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منهاج الدولة، ومنهاج المدرسة، ومنهاج الصف. المنهاج العام تنتجه الوزارة من خلاله بالتعاون مع المجتمع والقيادات التربوية. أما منهاج المدرسة تنتجه الإدارات المدرسية (مدراء ومعلمون) بالتعاون مع ممثلين عن الأهالي. ومنهاج الصف ينتجه المعلم بالتعاون مع الطلبة. في هذه المقالة سأركز على المنهاج العام، وأترك البقية للمقالات القادمة.

| المنهاج العام: ويحتوي على الرؤية، والقيم، والمبادئ، والخطوط العريضة، للأهداف والكفاءات المتوقعة من الطلبة [1]، ويتضمن:

- أولاً؛ أهداف المراحل المدرسية: الأهداف المتوقع إنجازها وفق كل مرحلة دراسية (الصفوف أو السنة الدراسية عندنا). مثلا ماذا يتوقع من طفل في الصف الرابع أن يتعلم ويتقن، وعدد صفحات الوثيقة 51 صفحة.

- ثاينا؛ الأهداف التعليمية العامة: الأهداف المتوقع إنجازها وفق مجال التعلم "Learning area"، (أو المادة الدراسية وفق التعبير الشائع في البلاد العربية)، مثلا: ماذا يتوقع أن يتعلم طلبة الصف الرابع في مادة الرياضيات. وعدد صفحات الوثيقة 31 صفحة.

- ثالثا؛ العلاقات التكاملية: العلاقة بين منهاج الوزارة، ومنهاج المدرسة، ومنهاج الصف. والذي ينص على كون منهاج الوزارة، هو إطار "Framework" لتوحيد المسار التربوي في جميع المدارس النيوزلاندية. في حين تترك عملية ترجمة وتطبيق هذا الإطار، لتحدده كل مدرسة، ومن ثم يترك الأمر للمعلم وصفه، وفق حاجات الطلبة ومجتمعاتهم. بحيث يكون التعلم ذو معنى وارتباط بواقعهم. وعدد صفحات هذه الوثيقة 49 صفحة.

والسبب في ذكري لعدد الصفحات، هو أن كلاً من هذه الوثائق تقترب في عدد صفحاتها، من عدد صفحات كتاب واحدة لمادة الرياضيات، أو العلوم في بلادنا. ولكن من ناحية القيمة فشتان. ولكيلا أبالغ، فإن تحديث بند مادة التكنولوجيا (فقط)، سيحتاج "تعديله" إلى ثلاث سنوات كاملة، ابتداء بعملية الإقرار والتشريع ثم التقديم للمدارس، مرورا بالدعم والمراجعة، وانتهاء بالتطبيق في المدارس (2). في حين أنه في فلسطين على سبيل المثال، فإن وضع وتأليف وإقرار وإلزام المدارس، بتدريس المنهاج الجديد للصفوف من الصف الأول إلى الصف الرابع، بما تتضمنه من تأليف 5-6 كتب على الأقل لكل صف، لم يحتج إلا إلى ثلاثة أشهر، باعتبار أن ذلك يعتبر "إنجازا"!

قد تلجأ بعض المدارس أحيانا لشراء كتب مدرسية في مادة معينة "خاصة في الرياضيات"، ولكنها ليست النموذج السائد أو الشائع.
 
فالنموذج السائد هنا، أن الطلبة والمعلمين خلايا نحل تبحث عن المعرفة، وليسوا دجاجا في أقفاص يقدم لهم العلف، على حد وصف الدكتور منير فاشة، في حديثه الشيق عن الاحتلال المعرفي.
 
إن تطبيق مناهج بدون كتب يعتمد أساسا على الثقة. الثقة في أنظمة التعليم وجامعاتنا وكليات التربية عندنا.
 
 

ويبقى السؤال (العربي الشهير) : أين الكتب؟ أين المادة الدراسية؟ هذا السؤال، أجاب عنه الصبي في مقدمة هذه المقالة، فإذا أراد الطلبة تعلم الشعر، فعليهم قراءة كتب الشعر، وإذا أراد الطلبة تعلم الدوائر الكهربائية، فعليهم البحث في المراجع والكتب والإنترنت للحصول على المعلومات، وإذا أراد الطلبة تعلم الأدب فعليهم البحث عن الأدباء وكتاباتهم وقراءتها.

وقد تلجأ بعض المدارس أحيانا لشراء كتب مدرسية في مادة معينة "خاصة في الرياضيات"، ولكنها ليست النموذج السائد أو الشائع. فالنموذج السائد هنا، أن الطلبة والمعلمين خلايا نحل تبحث عن المعرفة، وليسوا دجاجا في أقفاص يقدم لهم العلف، على حد وصف الدكتور منير فاشة، في حديثه الشيق عن الاحتلال المعرفي.

هناك طبعا تحديات هامة لهذا النموذج، أهمها: عملية التقييم، وتفاوت الجودة في عملية التطبيق الموحد للمناهج، أو تحدي ربطها بمنهاج المدرسة. بالنسبة للتقييم فخصصت له مقالة بعنوان: "شهادات بلا علامات.. طرق بديلة لتقويم حقيقي لأطفالنا". أما تفاوت جودة التطبيق فهو تحد لكل أنواع المناهج مهما كانت، حتى المناهج المفصلة الشائعة في بلادنا، مثلا: هل هناك ضمان أن كتاب اللغة العربية الموحد سيدرس بنفس الجودة في جميع المدارس؟

| للمناهج أهداف وتوجهات

هي دعوة لنتخيل مدارسنا بلا كتب مقررة، فإذا أراد الطلبة تعلم أي موضوع، يبحثون عنه في المكتبات العامة أو المصادر الإلكترونية.
 
ماذا سيحدث لو وفرنا مكتبة لكل صف، تحوي معارف وعلوما وأدبا منوعاً، يقرؤها الطلبة على مدار السنة؟ تخيلوا معي حجم الحصيلة المعرفية واللغوية التي يمكن أن يحصلوا عليها.

ليس شرطا أن يكون للمنهاج كتب، ولكن من المهم أن يكون للمنهاج أهداف يعرفها المعلمون، والطلبة، والأهالي. فكم من المعلمين والتربويين، يعرف أن المنهاج في الأساس يعني أهدافا وليس كتبا مدرسية؟ كم من المعلمين والتربويين في بلادنا، يعرف عن المبادئ والقيم (إن وجدت وتوفرت أصلا) فيما يتعلق بالمناهج التي يقومون بتدريسها؟

وكم من المعلمين في بلادنا يعرف أن المنهاج ليس نصا عليه أن يشرحه للطلبة، ومن ثم يختبرهم فيه؟ إن وجود أهداف واضحة، ومحددة، هو ما يوحد المجتمعات ويجعلها متماسكة ومترابطة، ووجود حرية لترجمتها وتطبيقها، هو ما يقويها ويكسبها التكيف والإبداع.

أما بخصوص الكتب؛ فسأقوم بعملية حسابية بسيطة. كل طفل في المرحلة الابتدائية عندنا، يتوقع أن يحصل من الدولة على 5 كتب في كل فصل دراسي، أي حوالي 10 كتب في السنة. وإذا افترضنا أن كل صف مدرسي يضم 30 طالبا (طبعا أنا لم أذكر صفوف ال 40 طالبا). أي أن الدولة تطبع 300 كتابا لكل صف في السنة الواحدة، تحوي معلومات مكررة، مطلوب من الجميع حفظها وتكرارها.

السؤال هو: ماذا سيحدث إذا لم نطبع تلك الكتب، وبدلا من ذلك نوفر 300 كتاب لكل صف، يحوي معارف وعلوما وأدبا منوعاً، يقرؤها الطلبة على مدار السنة؟ ما هي الحصيلة المعرفية واللغوية التي يمكن أن يحصل عليها الطلبة، في حياتهم الدراسية بوجود مكتبة في كل صف؟ ما أقوله ليس خيالا، ما أقوله هو ما شاهدته في المدارس هنا، ميزانية المدرسة تذهب لتوفير مكتبة لكل صف، ومكتبة أكبر لكل مدرسة، وليس لطباعة كتب مكررة، يلقيها المعلم، ويمزقها الطلبة في نهاية العام الدراسي، وهم يحملون تجاهها كل مشاعر الكراهية والنفور.

إن تطبيق مناهج بدون كتب يعتمد أساسا على الثقة. الثقة في أنظمة التعليم وجامعاتنا وكليات التربية عندنا، في أن تكون قادرة على تخريج معلمين ومعلمات يمتلكون المهارة، والكفاءة، لفهم وترجمة الأهداف إلى خطة عمل وواقع مبدع. هذه الثقة "ليست ساذجة" لأتوقعها من أنظمة تعليم هدفها إبقاء الأجيال القادمة "مكررة"، و"حافظة مش فاهمة"، و "مكبلة بالنص"، وتنتظر أن تُطعَم لا أن تصطاد.

وكما أقول وأكرر في كل مقالة، ليس مطلوبا بأن نطبق هذا النموذج حرفيا أو فوريا، فأنا في الأصل ضد سياسة "النسخ واللصق" وضد الحلول الفورية في التعليم. لكنها دعوة للتأمل، وحتى يبقى هذا الخيار موجودا، يجب أن نفكر في معنى المنهاج، وكيف يمكن أن يكون شكله حين نخطط لبناء نموذجنا الخاص للتعليم في يوم من الأيام.


| قائمة المصادر والمراجع 

(1) The New Zealand Curriculum

(2) Digital Technologies and the national curriculum