بنفسج

شهادات بلا علامات.. طرق بديلة لتقويم حقيقي لأطفالنا

الإثنين 08 يونيو

لن أنسى أول لقاء واحتكاك لي مع المدارس هنا حين ذهبت من أجل تسجيل أولادي، تفقدت جيدا جميع الوثائق والأوراق، وكانت الوثائق الأهم بالنسبة لي إلى جانب جوازات السفر هي شهادات الأولاد المدرسية. ولن أنسى ردة فعل المديرة حين نظرت إليّ بعد تسليمها الشهادات، نظرة لم أستطع أن أفهمها أبدا، أو أن أميز إذا ما كانت نظرة تعجب أم سخرية أم لوم أم عتاب! قالت وهي تعيد إلي الشهادات: "نحن نعلم جميعا أن هذه الأرقام لا تعبر عن شيء، أحتاج فقط لعمر الطفل، وحالته الصحية، وعنوان السكن، لأسجله في المدرسة"!

 

| تساؤلات مشروعة حول الشهادات

إنّ استلام الشهادات في بلادنا، هي اللحظة التي يكرم فيها المرء أو يهان، هي الذكرى الأكثر توترا في طفولة العديد منا، إلى جانب لحظة دخول الامتحان. فمسلسل الرعب الذي كنا جميعا أبطاله في حياتنا المدرسية كان يحتوي ذلك الثالوث المرعب "الامتحانات، العلامات، الشهادات".

 

المشكلة أنه في كل تلك الدوامة نادرا ما نقف لنسأل أنفسنا: هل حقا هذه العلامات والشهادات تعبير حقيقي عن تعلم أطفالنا؟ وهل تساعد الطفل على تحسين تعلمه؟

لا يختلف اثنان في بلادنا على أن كلمة الشهادات تعني العلامات، والعلامات هي مستوى الطالب، وهي مستقبله ومفتاح دخوله وقبوله ليس فقط في الجامعات، وإنما أيضا في بعض المدارس وبعض الوظائف. إنها العملة التي تعطي قيمة للمتعلم، وبقدر امتلاكك لتلك العملة بقدر امتلاكك لقيمة، وبقدر تحصيلك لها بقدر حصولك على فرص وامتيازات في حياتك. وهذا الأمر ليس في البلاد العربية فقط بل في العديد من دول العالم. ولكن المشكلة أن نظام العملة هذا نستخدمه في بلادنا باكرا جدا وبشكل مبالغ فيه مع أطفالنا الصغار، حين يكون هذا النوع من النظام للتقييم عائقا حقيقيا لتعلم ونمو الطفل ذهنيا ونفسيا.

 

اليوم الدراسي كما في المقالة السابقة، هو عبارة عن تنافس بين المعلمين على عقل الطالب ووعيه وطاقته. كل منهم عنده نصوص محددة يجب أن "تودع" في عقل ذلك الكائن الصغير كما "يزغط البط تماما". ليقوم المعلم بعد ذلك من فترة الى أخرى "بسحبها" عن طريق الامتحانات. وأهم شيء "مثل ما دخلت تخرج" لا حرف ناقص ولا زائد، وأي خلل في عملية السحب هذه بعد الإيداع، فيعني خسارة حصيلة الطالب من العملة الشهيرة المسماة: علامات. إنها العملية التي يطلق عليها باولو فريري "التعليم البنكي"؛ حجر الأساس في تعليم المقهورين.

هل تُعد الشهادات أداة للوصم الاجتماعي من نوعية "الأول"، "الراسب"، "الفاشل"، "الناجح"، "الشاطر"، "الضعيف"؟ هذا الوصم الكفيل بأن يسلب الطفل الرغبة والقدرة على التعلم. كنت أسأل نفسي دائما هذا السؤال وأعرف الإجابة جيدا، ولكن لم أكن أعرف البديل أو البدائل، حتى رأيت النموذج النيوزيلاندي.

وفي دراستي وعملي حين أصبحت معلمة في المدرسة ومحاضرة في الجامعة، كانت عملية وضع العلامات المهمة الأكثر بغضا إلى قلبي، وبقدر حبي للتعليم بقدر كرهي للحظة وضع العلامات. كنت أكره ملاحقتي للصغار من أجل تجميع علامة من هنا وهناك قبل نهاية الفصل. والأسوأ على الإطلاق هي حالة الاستنفار القصوى في ذلك اليوم العظيم المشهود، يوم تجهيز الشهادات وكشوف العلامات لتسليمها للأهالي ووزارة التربية والتعليم. وما زلت أتذكر اتصالات الأمهات، هذه تقاتل من أجل علامة مصيرية لابنها في الصف الأول! وتلك تضرب ابنها إن لم يحصل عليها. حالة جنون بالكامل.

 

والمشكلة أنه في كل تلك الدوامة نادرا ما نقف لنسأل أنفسنا: هل حقا هذه العلامات والشهادات تعبير حقيقي عن تعلم أطفالنا؟ وهل تساعد الطفل على تحسين تعلمه، أم أنها أداة للوصم الاجتماعي من نوعية "الأول"، "الراسب"، "الفاشل"، "الناجح"، "الشاطر"، "الضعيف"؟ هذا الوصم الكفيل بأن يسلب الطفل الرغبة والقدرة على التعلم. كنت أسأل نفسي دائما هذا السؤال وأعرف الإجابة جيدا، ولكن لم أكن أعرف البديل أو البدائل، حتى رأيت النموذج النيوزيلاندي.

 

| التقييم بلا امتحانات

صورة 1.jpeg

 

لكي أكون واضحة من البداية سأكتفي هنا بالحديث عن عملية التقييم في مرحلة التعليم الأساسي، وليس في مرحلة التعليم الثانوي لاختلاف التقييم بشكل كبير. ولذا أرجو أن لا يغيب عن البال أني أتحدث عن عملية تقييم الأطفال من الصف الأول وحتى السابع تقريبا. الأمر الثاني والمهم جدا أنه هنا يتم التفريق بشكل كبير بين عملية التقييم Assessment وبين الشهادات Reporting.

 

التقييم أو التقويم عملية مستمرة يقوم بها المعلمون والمدارس من أجل قياس تقدم الأطفال. في بلادنا تعد الامتحانات هي وسيلة التقييم الأساسية والمعتمدة والموثوق بها في جميع المراحل، في حين أنها هنا لا تستخدم مع الأطفال في المرحلة الأساسية، فلا يوجد ورقة وقلم وأسئلة وأجوبة وصح وغلط. ولا يوجد أيضا علامات، لا من 10 ولا من 100 ولا A أو B. حقيقة لا يوجد أي شكل من أشكال التصنيف المعلن للأطفال، فلا يوجد شيء اسمه أوائل وأواخر وناجح وراسب. الكل يذهب للمدرسة ليتعلم وفق ساعته الخاصة واستعداداته. والامتحانات بالطريقة المتعارف عليها عندنا تبدأ في المرحلة الثانوية أي بعد الصف السابع.

 

وبالتالي يستخدم المعلمون طرق تقييم بديلة لتقييم تعلم الطلبة، مثل: حل عدد معين من مسائل رياضيات بشكل فردي أو جماعي في وقت محدد، إنجاز مشاريع، كتابة مقالة أو قصة، وغيرها من الطرق التي تركز على تتبع تطور التعلم وليس القياس اللحظي له. إن تقدم وتطور تعلم الطفل هو محور عملية التقييم. لا يهم كثيرا بأي سرعة ولا بأي كمية، لذلك لا يتم أبدا مقارنة طفل بآخر، وإنما يقارن الطفل بنفسه على مدار العام. والسؤال المهم والمركزي هو: هل يتقدم في تعلمه أم لا؟

 

هل كتابته للقصص بداية العام وعدد الكلمات المستخدمة تزداد طوال العام الدراسي أم أنّها كما هي؟ هل مهارات الجمع والطرح واستخدام طرق مختلفة وعدد الإجابات الصحيحة زادت أم بقيت كما هي؟ هل قدرة الطفل على البحث والحصول على معلومات ازدادت أم قلت؟ هل تعاون الطفل مع زملائه وتكيفه معهم ازداد أم لا؟ هل يحرز الطفل تقدماً في القراءة أو الكتابة أو الرياضيات؟ وهل يحرز تقدماً في الحقول الخمسة الأساسية للتعلّم في المنهاج النيوزيلندي"Key Competencies" وهي: التفكير، استخدام اللغة والرموز والنصوص، إدارة النفس أو ضبط الذات، العلاقة مع الآخرين، المساهمة "نفع الآخرين" [1].

 

| الشهادات بلا علامات

إن تقدم وتطور تعلم الطفل هو محور عملية التقييم في النظام النيوزيلندي. ليس رقماً في شهادة، إنما أوصاف دقيقة يستفيد منها الطفل وذووه ومعلموه.
 
لذلك فإن استبدال الجهد والعمل المهدور في إعداد الامتحانات وإصدار الشهادات والعلامات، بالتقييم الحقيقي لأطفالنا في المدارس؛ يمثل واحداً من البدائل الناجعة للنظام التعليمي ككل. تقييم يفهمه من يقرؤه وينتفع به، لا رقماً يستخدمه في حفلات التباهي ومواسم المقارنة.

الشهادات هي العملية التي يتم بها إبلاغ أولياء الأمور والأطفال بنتيجة التقييم وتسمى "Reporting". والشهادة عادة تتناول ثلاثة محاور رئيسية: مهارات الطفل في القراءة، مهارات الطفل في الكتابة، مهارات الطفل في الرياضيات. والصورة التالية توضح نموذجا لشهادة توفرها وزارة التعليم على موقعها للمعلمين عن تطور تعلم طفلة افتراضية اسمها ميا خلال السنوات الأربع الأولى في المدرسة. والطفلة رغم أنها ضمن المستوى المأمول في القراءة إلا أنها متأخرة قليلا في الرياضيات والكتابة [2].

غ15.png
نموذج لشهادة مدرسية توفرها وزارة التعليم النيوزلندية للمعلمين 

الملاحظ هنا استخدام الكلمات فقط في التعبير عن تعلم الطفل واستخدام لغة مشجعة ومحفزة خالية من إطلاق الأحكام أو اللوم. الأمر الآخر هو الدقة في تحديد مواطن الخلل، والدقة في تحديد خطة العلاج لها. وتوزيع الأدوار بين المدرسة والعائلة. والأهم وضوح وتتبع مدى تقدم الطفلة خلال عدة سنوات وخلال سنة واحدة. وصدقوني شهادات أولادي هنا التي استلمتها من عدة مدارس كانت بنفس النمط والتي جعلتني أقرؤها مرارا وتكرارا. يكفي فقط أن أنظر إلى اللغة المستخدمة والمعلومات في الشهادة، لأصاب بدهشة حقيقية حول المعلومات التي يمكن أن أعرفها عن تعلم طفلي في شهادة من هذا النوع. ومن ثم أقارنها بالأرقام الجرداء التي لا تخبرني أي شيء عن تعلم طفلي سوى أنه 60 أو 90 أو 100.

اللافت هنا أن استخدام National standards"" أي المعايير المشار إليها في الشهادة (NS) عليها خلاف كبير وجدل لا يهدأ هنا، وأيضا محل للتجاذبات السياسية. ففي حين أقرتها الحكومة السابقة إلا أنها أثارت ضجة واعتراضا كبيرين من التربويين والأهالي، لأنها قد تصيب الطفل والأهل بالإحباط في حال تأخر الطفل عن اللحاق بما هو متوقع "Standard". ولأنهم أطفال فكل طفل يجب أن يترك ليتعلم وفق طاقته وإمكانياته وسرعته الخاصة وليس وفق معايير قد نختلف عليها أو نتفق أو تتغير يوما ما.

وقد كان أول إجراء قامت به الحكومة الحالية هو إلغاء فرض هذه المعايير على المدارس، وجعلها عملية اختيارية غير ملزمة في حال خالفت فلسفة المدرسة التربوية ومنهاجها الخاص. ويجري حاليا حوار تربوي شامل حول بدائل التقييم لمثل هذه المعايير. ومن هذه البدائل أن تكون الشهادات مرتبطة بالكفاءات الخمس التي أشرت اليها سابقا. وفي الصورة التالية نموذج مقترح من وزارة التعليم (تمت ترجمة جزء منه) عن كيفية كتابة تقرير متعلق بالكفاءات الخمس للطفل (3).

غ14.png
نموذج مقترح من وزارة التعليم النيوزلندية لكيفية كتابة تقرير متعلق بالكفاءات الخمس للطفل

| التغير في مفهوم التقييم والشهادة

صورة 7.jpeg
 

من العبارات التي وقفت أمامها طويلا، وكانت معلقة في غرفة معلمات إحدى المدارس هنا: "Incessant testing is like continually pulling up the plants to see the condition of the roots. The consequence of which is that all good natural growth is stopped". أي: "الاختبارات المستمرة هو مثل أن تسحب الشتلات باستمرار من التربة لتتفقد حالة جذورها، والنتيجة أن كل النمو الطبيعي الجيد للشتلات سيتوقف".

 

حين نتحدث عن أطفال فإننا نتحدث عن مرحلة نمو. وأخطر ما نفعله لهذا النمو هو أن نحبطه ونوقفه أو نؤخره، وأن نجعل عملية التعلم عملية مؤلمة ومرهقة لنفسية طفل؛ مليئة برهبة الاختبار والخوف من الامتحانات وألم خسارة العلامات وآلام المقارنة واللوم والتنافس غير الشريف وغير العادل. ما تأكد عندي وبتّ الآن أتحدى به كائنا من كان، أن النظام الحالي لتقييم الأطفال في مدارسنا ضره أكبر من نفعه؛ وبالتالي وجب تحريمه وتجريمه. ليس هناك أي سبب يدفعنا لوضع أطفالنا في هذا الضغط المبكر وهم ما زالوا في عمر التفتح. ليس هناك أي سبب يدفعنا لأن نقتل الرغبة في التعلم وتعريض أبنائنا لحالة إحباط منظم وفقدان الثقة في أنفسهم وقدراتهم من أجل علامة أو امتحان.

 

من العبارات التي وقفت أمامها طويلا، وكانت معلقة في غرفة معلمات إحدى المدارس هنا:
 
 "Incessant testing is like continually pulling up the plants to see the condition of the roots. The consequence of which is that all good natural growth is stopped".
 
أي: "الاختبارات المستمرة هو مثل أن تسحب الشتلات باستمرار من التربة لتتفقد حالة جذورها، والنتيجة أن كل النمو الطبيعي الجيد للشتلات سيتوقف".

دعونا نصارح أنفسنا أن السبب الوحيد لبقاء هذا النموذج هو كسلنا وعجزنا أن نغير هذا الإرث الفاشل الذي أنتج أجيالا تكره المدرسة والدراسة والعلم والتعلم. وأن استخدام بعض الأطفال الذين استطاعوا التكيف مع هذا النموذج (عادة أوائل الصف) للدلالة على أنّ نظام الامتحانات والعلامات مجدٍ هو استدلال خاطئ تماما لأنه يشير إلى الاستثناء وليس إلى القاعدة. ليس عيبا أن نتراجع وأن نعترف أنه نموذج فاشل. حتى الدول الأولى في التعليم في العالم مثل: سنغافورة، حدّثت نظام تقييم الأطفال في المرحلة الابتدائية بعد التحذيرات من أن متطلبات المستقبل ستحتاج مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة وليس الحفظ وحل أسئلة الامتحانات [4].

 

بالنسبة لي فإن أخطر سيناريو ممكن أن يحدث هو حالة النسخ واللصق والترقيع التي قد يتبعها البعض في التعاطي مع هذا الأمر. فنطالب المعلمين مثلا بتطبيق هذه الطريقة في ظل نظام مليء بالمواد الدراسية ومناهج للحفظ والبصم، أو دون تدريب وإعداد للمعلمين بشكل كاف على استخدامه. أو أن يأتي مثلا من يطالب المعلمين بدمج الطريقتين في تقييم الطلبة فنزيد الطين بله، ونرهق المعلمين بالمزيد من العمل، ونرهق الطفل بالمزيد من الضغط. إن نجاح هذا النموذج مرتبط أساسا بنظام تعليمي مرن يركز على محاور أساسية معدودة، ويستند إلى أبحاث أكاديمية وتأهيل منظم للمعلمين وتهيئة للمجتمع المشبع بثقافة "علامات بترفع الراس".

 

إن الكثير من الجهد والعمل في إعداد الامتحانات وإصدار الشهادات والعلامات ورصدها وتدقيقها يمكن أن يصرف على تقييم حقيقي لأطفالنا في المدارس. تقييم يفهمه من يقرؤه وينتفع به، لا ليستخدمه في حفلات التباهي ومواسم المقارنة. هذا الأمر ليس خيالا وليس مستحيلا؛ وما دامت هناك شعوب ومجتمعات استطاعت التغلب على ثقافة التعليم البنكي، فإنه بإمكاننا في يوم ما أن نقوم بذلك. دوام الحال من المحال، وسيأتي اليوم الذي نستطيع فيه إبداع نظام تربوي جدير بنا وبأبنائنا، يحترم إنسانيتهم وكرامتهم وقدراتهم.


| قائمة المصادر والمراجع 

(1) أدوات ومصادر التقييم الخاصة بمهارات الطلاب ومراحلهم المختلفة، والمعتمدة لدى وزارة التعليم النيوزيلندي. ( Assessment tools & resource).

(2) الشهادة الأصلية للطالبة ميا نموذجاً. (Mid-year report for student not yet on track to meet National Standards).

(3) نموذج لكتابة تقرير تقييمي للطفل وفق المهارات الخمس الأساسية الوطنية. (Reporting on Key Competencies).

(4) (Children in Singapore will no longer be ranked by exam results. Here's why).