بنفسج

سيمون دي بفوار: في الإحالات الثقافية للخطاب النسوي

الثلاثاء 15 سبتمبر

نساء الفلسفة
نساء الفلسفة

تساءلت غياتري سبيفاك ، واحدة من نساء الفلسفة والمفكرات، فيما إذا كان بإمكان التابع أن يتكلم، واتخذت من المرأة الهندية المهمَّشة مثالًا واضحًا على الصوت الضائع بين رؤيتين؛ إحداهما استعمارية، والأخرى محلية. وكلًا اختُزلت في صورة، ولم يكنْ لديها صوتها أو لغتها الخاصة. في حالةٍ أشدّ إرباكًا، يمكنني التساؤل حول ما إذا كان "خطاب" سبيفاك نفسه ممثلًا للمرأة الهندية المحلية، وإن كانت هذه المرأة المحلية قد سمعته أو استطاعت قراءته، والتواصل معه، والردَّ عليه في حال لم ترَه معبِّرًا عنها، ويكون السؤال القلق من جديد: هل يمثِّل خطاب سبيفاك سرقة ثالثة للمرأة الهندية المحلية، الأرملة التي ربما لم تسمع بكتاب سبيفاك أصلًا؟

في الحقيقة، فإن التساؤل أعلاه يتمادى إلى درجة الطوباوية في التعبير عن الرغبة في وجود تواصل مباشر بين الخطاب وموضوعه، وهو ما لم يحصل تاريخيًا، فحتى أكثر الخطابات الشعبوية، لم تحقق هذه الحالة من التواصل المثالي، وظلَّ التناقض، المؤسِف، في كون الثقافة الرفيعة التي تتخذ من لغتها وسيلة تواصل مع موضوعها لا تتواصل مع موضوعها بالفعل، بينما الأخرى "الشعبية" التي تتحدث بصوت موضوعها نفسه، لا بصوت لغتها الخاصة، كانت أكثر تواصلًا معه.

وهذا تناقضٌ قديم جديد لم يتم حله منذ سُئِل أبو تمام: لماذا تقول ما لا يُفهم، فأجاب: لماذا لا تفهمون ما يُقال؟ وهو الإجابة المحتملة عن سؤال من قبيل: لماذا لا زالت النساء تقرأن مجلات الموضة وروايات الغرام أكثر من قراءتهن لسيمون دي بوفوار؟ ولماذا تستمر الفتيات في متابعة المسلسلات التركية أكثر من رغبتهن في مشاهدة محاضرة لجوديث بتلر؟

نساء الفلسفة
غياتري سبيفاك: ناشطة ومنظرة وناقدة أدبية أميركية ومن نساء الفلسفة من أصول بنغالية

وعلى الرغم من هذه الحالة العامة في الافتراق المتفاوت بين النظرية وموضوعها، فإن هذا السؤال يصبح جديًا في حالة الحديث عن المرأة: المرأة في الخطاب والمرأة خارج الخطاب، في الخطاب النسوي، وهنا ستبدو حتى فكرة هذا المقال مجرد كتابة ثالثة عن موضوع لا يأخذ ما يُقال بعين الاعتبار، ولكنها محاولة لإظهار التناقض بين امرأتين: إحداهما أسيرة الخطاب والأخرى خارجه، ليس التناقض فحسب: بل أيضًا التوتر الحادث نتيجة محاولة المرأة الكاتبة أن تكون داخل الخطاب النسوي وخارجه معًا.

 سيمون دي بفوار: إحالات ثقافية لا طبيعية

لا يتسع المقام لدراسة اللحظة التاريخية التي بدأت فيها كلمة "امرأة" تتخذ منحى إشكاليًا ومعقدًا يتوزع في خطابات مختلفة، غير أن الأكيد هو أن "الجسد" الأنثوي كان موضوعًا أزليًا للفن والفلسفة واللغة، لقد كان الرحم الأنثوي رمزًا للخصوبة والاستمرار، واستمرت حواء في كونها إشكالية في الأساطير والديانات تمنح كل القصص بعدًا دراميًا، يكون فيها الرجل بطلًا بقدر ما تكون المرأة محركًا فاعلًا للأحداث.

ويكفي أن نطلع على الديانات التوحيدية الثلاث اطلاعًا عابرًا لنرى كيف شكَّل الجسد الأنثوي بخصوصياته البيولوجية إشكاليات حول مفاهيم أخلاقية، كالطهارة مثلًا. ما يمكن قوله هو أنه لا يُعلم على وجه الخصوص متى أصبحت المرأة خطابًا، لكنه معلومٌ منذ الأزل كم كان جسدها إشكاليًا ومتناقضًا، مرفوعًا حد التأليه، بوصفه مصدرًا لاستمرار الوجود، ومسحوقًا حدَّ التأثيم والاتهام بالدنس حينما يتم الحديث عن حيضه.

تنفي دي بوفوار ، وهي واحدة من نساء الفلسفة، أن يكون الجسد لاعبًا أساسيًا في تشكيل الذات الوجودية للمرأة. إن العمليات البيولوجية للجسد هي عمليات طبيعية، وهو بحد ذاته لا يعدو كونه إشارة حول الجنس، أما ما توحي به كلمة امرأة فهو ثقافي ومكتسب.

لكنني سأتوقف عن نقاشٍ أثارته كلٌ من سيمون دي بوفوار وجوديث بتلر، من نساء الفلسفة، حول هوية هذا الجسد، وكيف كانتا كامرأتين -مع التحفظ على تصنيف بتلر من حيث نوعها الجندري- تحاولان التخلص من هذا التاريخ الطويل لأسطورة الجسد الأنثوي، وكأنه عبء يمنعهما من الوصول إلى حقيقة ما، هذه الحقيقة هي حرية الذات الوجودية عند دي بوفوار، والذات غير الأدائية -إن صحَّ الوصف- عند بتلر.

لقد بدأ تاريخٌ آخر للخطاب النسوي مع عبارة سيمون دي بفوار: "لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك"، وفي كتابها الجنس الآخر ناقشت هذه المقولة في نواحٍ متعددة: بيولوجية، ونفسية، وسيكولوجية. كما ناقشتها من خلال الأدوار الاجتماعية التي تقوم بها المرأة في حياتها. هذا الجهد البحثي كان من أجل إثبات حقيقة واحدة غيرت مجرى الخطاب النسوي من خطاب حقوقي إلى خطاب وجودي، حقيقة تقول إن كلمة "امرأة" ليست طبيعية، بل ثقافية.


اقرأ أيضًا: تتبع تاريخي: كيف أثّرت النسوية على صورة المرأة في أفلام "دزني"؟


وبسبب هذا الاعتبار فقد شكّلت تنظيرات دي بوفوار مرحلة جديدة في خطاب المرأة، إنه خطاب تريده أن يرفض "مفاهيم التفوق والدونية والمساواة المبهمة التي أفسدت كل النقاشات"[1]، ولكنها تتساءل حول من يضطلع بهذه المسؤولية، هل هو الملاك أم الخنثى؟ كلاهما لا يصلحان، ولذلك، ستجد أن "بعض النساء" هن القادرات على إعادة تشكيل القضية من جديد، لذا، تبدأ رحلتها خارج قضايا المساواة إلى قضايا أكثر عمقًا.

تنفي دي بوفوار أن يكون الجسد لاعبًا أساسيًا في تشكيل الذات الوجودية للمرأة. إن العمليات البيولوجية للجسد هي عمليات طبيعية، وهو بحد ذاته لا يعدو كونه إشارة حول الجنس، أما ما توحي به كلمة امرأة فهو ثقافي ومكتسب. هكذا نفسر كلمة "تصبح امرأة".

 المرأة والرجل.. ثنائية العبد والسيّد

نساء الفلسفة
صورة لسوق بيع الزوجات في إنجلترا القرن الثامن عشر 

وفي سبيل قراءة هذا السياق الثقافي لكيفية صناعة المرأة التابع تستعير دي بوفوار ثنائية السيد - العبد عند هيجل، وإشكالية الوعي بها، لتجعلها ثنائية المرأة - الرجل، إلا أن تبعية المرأة للرجل أشد تعقيدًا، وترى أن "العبد المحتاج يكظم حاجته للسيد، أملًا وخوفًا، وتعمل ضرورة الاحتياج دائمًا وإن كانت متساوية بين الاثنين لصالح القامع ضد المقموع، وهذا ما يفسّر البطء الذي تمت عليه عملية تحرير الطبقة العمالية. غير أن المرأة كانت على الدوام تابعةً للرجل إن لم تكن جاريته، ولم يتقاسم الجنسان العالم أبدًا بالتساوي: واليوم أيضًا"[2].

هنا تكمن أولى إشكالات خطاب المرأة، في كون الصوت الأنثوي يفترض افتراضًا مسبقًا بأنه لم يعد ينتمي إلى موضوعه، وأنه انفصل عنه ليعبِّر عنه. لقد انفصلت دي بوفوار عن مجموع النساء اللواتي لا تزال تربطهن علاقة "عبودية" برجالهن، وبدأت تكتب عنهن كما لو أنها هي ذاتها كامرأة خارج هذا الخطاب.

والأكثر إشكاليةً أن هذا الخطاب لا يسلم من صوت "احتقاري" خفي، أكثر منه تحريريًا، سيعمل على توظيف كل أفرع المعرفة من أجل إثبات نفسه، النساء الأخريات هن من "عبيد السيد"، بينما سيمون تنتمي إلى عبيد الحقل الذين رفضوا العبودية أخيرًا.

تعلل سيمون دي بفوار هذه الرغبة "العبودية" في أن تظل المرأة تابعًا، فترى أنه "إلى جانب مطالبة كل شخص بتثبيت نفسه كذات، وهي مطالبة أخلاقية، هناك أيضًا في داخله محاولة الهروب من حريته والتشكُّل كشيء: إنه طريق ضار لأنه خامل، قاصر، ضائع، يغدو بالتالي، نهبًا لإرادة غريبة، مجردًا من تفوقه، ومن كل قيمة.

لكنه طريقٌ سهل إذ يتحاشى بذلك القلق وتوتر الوجود الأكيد"[3]. وهذا الافتراض الذي يعلل وضع النساء في علاقة التبعية، ورضاهن به أنه رضى بالطريق الأسهل، وعدم مقدرة على مواجهة الأعباء الوجودية لتحقيق الذات الفردية الحرة التي هي "مطلب أخلاقي" -كما ترى-.

 إقصاء: المرأة ضد المرأة 

نساء الفلسفة
كتاب الجنس الآخر لـ سيمون دي بوفوار

 الافتراض ينطوي على استعلاء في إقصاء كل تجربة نسوية وجودية أخرى لم تكنها سيمون دي بوفوار، فالنساء المربيات، والزوجات في علاقات زواج تقليدية، والأمهات، والعاملات البسيطات، جميعهن مستثنيات من تأكيد وجودهن الفردي، طالما أنهن لم يتقاطعن مع التجربة الوجودية الفردية لدي بوفوار. إنهن لم يعايشن قلقًا وتوترًا من صناعة هذا الوجود برأيها، وفضَّلن العيش في ظل الآخر، بلا ذات متحققة، كخيارٍ سهل.

ويمكن أن نطرح هنا تعليقًا آخرا على هذا الرأي من حيث كونه يحتوي على تناقض داخلي، إذ تعتبر دي بوفوار أن تجربة الوجود والذات هي تجربة ذاتية تتحقق بالذات وحدها، بغضِّ النظر عن الخارج ثقافته، لكنها في ذات الوقت تفترض نمطًا معينًا لهذا الوجود يمكن أن ينفي معنى التجربة الذاتية الفردية، فربما تحصل المرأة في علاقة "تنمِّطها" دي بوفوار بأنها تبعية، على تحقيق وجودي حر، لم تستطع دي بوفوار تجربته، فقامت بنفيه.


اقرأ أيضًا: ديزني والنسوية: الجدل حول المرأة في قصص الأطفال الخيالية


وإذا تجاوزنا هذه المصادرة لتجارب النساء اللواتي لم تكنهن دي بوفوار، فإنه لا يمكن اجتياز هذا الطابع الوصائي الأخلاقي للخطاب، فإذا ما افترضنا أن المرأة قد تحررت من علاقة التبعية للرجل، والتي تفرضها سياقات ثقافية واجتماعية تحت غطاء قيمي ما انفكت دي بوفوار تحاول تفكيكه، ألا تكون قد وقعت من جديد في خطاب آخر لا يقل وصائية، واستعلاءً عن الأول، خاصةً، مع تأكيد دي بوفوار أن المطالبة بتحقيق الوجود الفردي هي "مطالبة أخلاقية"؟ فهل يكون صوت دي بوفوار صوتًا ذكوريًا جديدًا يخبر المرأة بما "يجب" عليها فعله؟

تعتبر دي بوفوار أن تجربة الوجود والذات هي تجربة ذاتية تتحقق بالذات وحدها، بغضِّ النظر عن الخارج ثقافته، لكنها في ذات الوقت تفترض نمطًا معينًا لهذا الوجود يمكن أن ينفي معنى التجربة الذاتية الفردية، فربما تحصل المرأة في علاقة "تنمِّطها" دي بوفوار بأنها تبعية، على تحقيق وجودي حر، لم تستطع دي بوفوار تجربته، فقامت بنفيه.

لكنَّ المثير هو ما تطرحه دي بوفوار كبديل لمنظور السعادة، إنه منظور الأخلاق الوجودية، إنها تعلم بوجود أسئلة من نوع: "أليست نساء الحريم أكثر سعادةً من المرأة الناخبة؟ أليست ربة المنزل أكثر سعادة من الناخبة؟". وتجيب: "لا نعلم كثيرًا ما تعنيه كلمة السعادة، ولا ما هي القيمة الحقيقية التي تشملها، ولا توجد أي إمكانية لقياس سعادة الغير، ومن السهل دومًا أن نصفَ بالسعيد الوضع الذي نريد فرضه عليه: خصوصًا هؤلاء المحكومون بالجمود، يقال إنهم سعداء بحجة أن السعادة هي السكون. بالتالي، هذا مفهومٌ لن نرتكز إليه. المنظور الذي نعتنقه هو منظور الأخلاق الوجودية"[4].

وعلى الرغم من أنها تقر بأنه لا يوجد طريقة لقياس "سعادة" الغير، فإنها تتشكك بطريقة ما في سعادة هؤلاء النسوة التابعات؛ لأنهن "محكومات بالجمود"، ولأن ثمة منطقًا يرى أن السعادة هي السكون، وبالرغم من أن المجتمعات الأبوية هي واقع، وكون النساء لا يملكن الكثير من الخيارات، لكن ماذا لو كانت المرأة سعيدة بالفعل بهذا الواقع؟ ماذا لو كانت لديها حججها الوجودية التي لا تستطيع صياغتها نظريًا ببراعة سيمون دي بفوار؟ لكنها تستطيع ممارستها بصمت؟ أما السؤال الآخر فهو عن هذا المنظور البديل، فإذا كان قد تم استبعاد "السعادة" كمنظور لأنها لا يمكن قياسها، فهل يمكننا قياس "الأخلاق الوجودية"؟


اقرأ أيضًا: الكتابة باسم مستعار: التستر تحت عباءة الجنس الآخر!


تعرف سيمون دي بفوار ما هو خطأ وما هو صواب بمقياس الأخلاق الوجودية؛ فترى أنه "تقوم كل ذات بشكلٍ محسوس عبر مشاريع تسامٍ؛ ولا تستكمل حريتها إلا عبر انطلاقتها الدائمة نحو حريات أخرى؛ ولا يوجد أي تبرير للوجود الحالي سوى امتداده نحو مستقبل مفتوح. كلما دخل التسامي في كمون يحدث تراجع للوجود إلى الذات، وللحرية إلى الواقع، وهذا السقوط خطأ أخلاقي إذا اعترف به الفرد؛ أما إذا فُرض عليه، فيأخذ شكل كبتٍ وقمع؛ وهو في الحالين داءٌ مطلق"[5].

وإذا تجاوزنا كون دي بفوار، باعتبارها امرأة وواحدة من نساء الفلسفة، تضع نفسها موضعًا سلطويًا، يقرر ما هو سقوط أخلاقي، وما هو تسامٍ، فإنه يمكن نقاشُ فكرة التسامي المستمر، والحركة الدائمة باتجاه المستقبل، وهذه الدوائر التي ما انفكت تنفتح في ثقب الزمن دون أن تغلق، هل يمكن للمرأة أن تتحدى الزمن بالفعل؟ وهل يمكنها الرهان على هذه الثقوب المفتوحة فيه؟

 


| المراجع

[1] سيمون دو بوفوار، الجنس الآخر-الوقائع والأساطير، ترجمة سحر سعيد، (دمشق: الرحبة للنشر والتوزيع، 2015)، ص26

[2] المرجع نفسه، ص20

[3] المرجع نفسه، ص 20

[4] المرجع نفسه، ص 27

[5] المرجع نفسه، ص 27-28