بنفسج

ثنائية البطن والرأس: المرأة وفعل الكتابة!

الثلاثاء 15 سبتمبر

ثمة ارتباط بين جسد المرأة والإنجاب، وهذه إحدى البدهيات الطبيعية، لكنَّها بالية، في تحليل مثير لهذا البطون المستديرة، ترى أن الرجال اخترعوا الثقافة لأنهم لم يستطيعوا مجاراة سحر الجسد الأنثوي، تقول: "لقد كانت المرأة معبودة لسحر البطن belly- magic  فقد بدت وكأنها تنتفخ وتلد، وفق قانونها الخاص.

ومنذ بداية الزمن بدت المرأة كيانًا غريبًا غامضًا. وقد أجلها الرجل، ولكنه خافها. فقد كانت هي الفك المظلم الذي لفظ الرجل خارجه، وسيعود ليبتلعه مجددًا. ومن ناحيتهم مجتمعين؛ اخترع الرجال الثقافة كدفاع ضد طبيعة الأنثى. وكانت العقيدة السماوية هي الخطوة الأكثر حنكةً في هذه العملية.

وما تحويلها الموقع الإبداعي من الأرض إلى السماء، إلا تحوُّل من سحر البطن إلى سحر الرأس، فاللغة عينها والمنطق نفسه الذي تستخدمه المرأة العصرية -ضمن ما تستخدمه- لمهاجمة الثقافة الذكورية أو البطريركية، كان من اختراع الرجال"[1].

تعتمد باليا على ثنائية الثقافي-الطبيعي، وتمنح المرأة الشق الطبيعي كاملًا لأنه سحرها، أما الرجل، فتمنحه الشق الثقافي، دون أن يكون هذا الثقافي ذو قيمة تفوقية كما كانت شكوى الخطابات النسوية والجندرية دائمًا، على العكس، فإنها، وللمرة الأولى تجعله ردَّ فعل، وليس فعلًا أصيلًا، وإذا كان الأمر كذلك، فإن أي انتقال أنثوي من سحر البطن إلى سحر الرأس هو انتقال يفقد المرأة صوتَها، لأنها -بالضرورة- ستتكلم لغة الرجل. ومن هذا المنطلق الثنائي يمكن الدخول إلى مشكلة المرأة مع الكتابة.

| إيليف شفق، ونانسي هيوستن: حديث عن الأمومة والكتابة

ث33.png
إيليف شفق، ونانسي هيوستن

في هذا القسم نعرض تجربة إيليف شفق ونانسي هيوستن ككاتبتين نقلتا تجربتيهما حول علاقة الكتابة بالأمومة، ونتبعها بتجربتي سيمون دي بوفوار ومي زيادة ككاتبتين رفضتا الإنجاب.

تروي نانسي هيوستن جزءًا صغيرًا من طفولتها، فتقول إنها نشأت في الفترة التي تخلى فيها الآباء عن أطفالهم، وكانت هي واحدةً ممن تُركوا، وأدى بها هذا الترك إلى حالة من التخلي عن كل احتياج، وأدخلها في مغامرات عديدة، لكنها في النهاية تتخذ موقفًا آخرا من حياتها، وتنجب ثلاثة أطفال، في كتابها أساتذة اليأس تحلل حيوات أدباء وفلاسفة العدم في أوروبا، وغالبًا فهي تردُّ التوجهات العدمية لديهم إلى إشكاليات في علاقاتهم الأمومية، وفي الحقيقة: فهي تضع الأمومة منظورًا للتحليل في الكتاب كله.

ليس بعيدًا جدًا عن باليا، تورد هيوستن قصةً عن صحافي سخر من كون النساء غير قادرات على الكتابة ولا التنظير، ثم استشهد بأنه لا يوجد ربات إناث، الإله دائمًا ذكر، وسخر من حيضها ونفاسها، كان رد هيوستن كالتالي: "تمتلك الربة سوزي الخلود الحق: خلود النقل والتوريث، وقبل أن تموت تكوِّن سلسلةً لا تنتهي من ربَّات أخريات قد حملن الراية بعدها"[2]. إنها تعيد المرأة إلى هذا السحر، سحر البطن، البطن الذي يمنحها خلودًا طبيعيًا، يأخذه الرجل بالنسبة، وتأخذه هي بالتجربة.

لذا تفرِّق هيوستن بين التوجه العدمي لدى الرجل والمرأة، وترى أن "أي امرأة عدمية سوف توجِّه عنفها ضد ذاتها"[3]. فالرجل إذا كان عدميًا سيلقي باللوم على حدث الولادة الذي سبب وجوده، والذي يقع خارجه، وخارج إمكاناته الوجودية بالطبع، أما المرأة، فإنها في حال لومها لحدث الولادة، فإنها ستوجه هذا العنف لأحد إمكاناتها الذاتية، وهذا يكون عنفها أكثر تدميرًا.

إنها تمنح الجسد الأنثوي تفسيرًا وجوديًا، فترى أن "جسد المرأة هو أولًا صلة، كل شيءٍ لدى المرأة صلة، حاضرها موصول بمستقبلها وبماضيها؛ فهي تستقبل الآخر فيها، ويمكنها أن تحمل الآخر فيها، وهي حتى إن لم تفعل لا يمكنها أن تنسى أبدًا هذه الإمكانية؛ إذ يذكرها جسدها في كل لحظة من حياتها بحضور الآخر المحتمل"[4].

ومن هنا، ترى الفرق الجوهري بين جسد المرأة وجسد الرجل، فتقول في عبارة شديدة الاختزال: "إن الرجال وحيدون في أجسادهم أكثر من النساء"[5]. وإذا كان جسد المرأة لا يمكنه أن يكون وحيدًا، حتى أثناء وحدته، لأنه دائمًا ممكن التثنية، فإن هذا يقود إلى إشكالية الكتابة التي هي بحسب لورانس بأول "مهنة التوحد والعزلة".

تمنح هيوستن الجسد الأنثوي تفسيرًا وجوديًا، فترى أن "جسد المرأة هو أولًا صلة، كل شيءٍ لدى المرأة صلة، حاضرها موصول بمستقبلها وبماضيها.
 
جسد المرأة لا يمكنه أن يكون وحيدًا، حتى أثناء وحدته، لأنه دائمًا ممكن التثنية، فإن هذا يقود إلى إشكالية الكتابة التي هي بحسب لورانس بأول "مهنة التوحد والعزلة".

ومن هذا المنظور تنطلق هيوستن في محاكمة لكل التنظيرات العدمية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتقرؤها من هذه الزاوية، فترى أن جميع هؤلاء الكتَّاب العدميين لم يخوضوا تجربة الولادة أو الأبوة أو الأمومة، وتسميهم اللاولودين، وعليه "ليس الأمر أنه لا يحق لهؤلاء اللاولودين الكلام، وإنما أنه لا يحقُّ لهم احتكاره".

بل أزيد على ذلك ما يلي: بما أنّ تسعين بالمائة من البشر مستثنون من الواقع الذي يتحدثون عنه، فإن عليهم أن يتجنبوا التعميم تمامًا[6]. وإذا أخذنا بهذه الفكرة ستبدو معظم التنظيرات الحديثة التي تخص الأمهات بشكل خاص غير صالحة للتعميم، ماذا يمكن أن نقول عن تنظيرات فرويد عن علاقة الطفل بالأم وتأويلاتها الجنسية مثلًا؟

لا ترى هيوستن أن الأدب العدمي لا يحق له أن يُعمَّم لأنه قاصر في التجربة، وبشكلٍ موازٍ، ترى أن العدمية ذاتها كانت نتاجًا لثلاثة عوامل، إحداها هي حركات التحرر النسوي! تقول: "وعلاوةً على نزعة التحديث وتحرر النساء، هنالك عاملٌ ثالث حسم ظهور التيار العدمي في أوروبا القرن العشرين، ألا وهو صدمة الحرب العالمية الثانية"[7].

في تأويلٍ مثير لهذا التوجه، ترى أنه كان يتوجب علينا عكسَ عبارة دي بوفوار "لا تولد الواحدة امرأة، ولكنها تصبح كذلك"، إلى "لا يولد الواحد رجلًا، ولكنه يصبح كذلك". فالرجل في عالم ما بعد الحرب، حيث انتهى التقسيم التقليدي للأدوار الاجتماعية والعمل، أصبح مطالبًا بإثبات رجولته، والمنافسة من أجل ذلك، هذه المنافسة التي قد تفشل في إثبات التمايز، قد تخلخل هويته، ومن ثم تنتج فراغه العدمي.

| تحضر المرأة عندما يصدر صوتها

كان الإسهام الحقيقي لصوت المرأة/الأم في الكتابة أقل من بقية الأصوات سواء أكانوا رجالًا أم نساءً، على الرغم من أن المرأة التي اختارت أن تكون أمًا لا زالت تشكِّل أغلبية، إلا أنها بلا صوت.
 
تفسٍّر هيوستن ذلك بأنالنساء اللواتي ينجبن ويمضين وقتًا طويلًا مع أطفالهن، لا يملكن الوقت، ولا الميل إلى الكلام ربمَّا، بمعنى إنشاء خطاب وبناء أنساق فلسفية ودينية وميتافيزيقية.
 
ومن هنا، فإن هذه الأنساق كافة، دون أن تعرف بالضرورة، ودون أن تعبِّر عن ذلك، تأسست على نسيان الطفولة، نسيان الطفل، نسيان الولادة، وعلى جهل ما كانت تعرفه كل النساء على نحوٍ غامض، دون أن يقلنه.


هذا العدم الشامل الذي أنتجه الرجل "منزوع الدور" التقليدي، لم تساهم فيه المرأة التي ظلَّت خارجه. ومن هنا، كان الإسهام الحقيقي لصوت المرأة/الأم في الكتابة أقل من بقية الأصوات سواء أكانوا رجالًا أم نساءً، على الرغم من أن المرأة التي اختارت أن تكون أمًا لا زالت تشكِّل أغلبية، إلا أنها بلا صوت.

تفسٍّر هيوستن ذلك بأن "الناس الذين كتبوا أو تحدثُّوا أمام الجمهور كانوا، تقليديًا وعلى العموم، من الرجال أو من النساء اللواتي اخترن أن يشبهنهم في وجهة النظر هذه، أي عدم الإنجاب أو عدم قضاء إلا الوقت القليل مع أطفال صغار، بينما كانت النساء اللواتي ينجبن ويمضين وقتًا طويلًا مع أطفالهن، لا يملكن الوقت، ولا الميل إلى الكلام ربمَّا، بمعنى إنشاء خطاب وبناء أنساق فلسفية ودينية وميتافيزيقية. ومن هنا، فإن هذه الأنساق كافة، دون أن تعرف بالضرورة، ودون أن تعبِّر عن ذلك، تأسست على نسيان الطفولة، نسيان الطفل، نسيان الولادة، وعلى جهل ما كانت تعرفه كل النساء على نحوٍ غامض، دون أن يقلنه"[8].

تنبه هيوستن إلى "صمتٍ" غامض، صمت يعرف أكثر مما يمكن أن يكون كلامًا، إنها معرفة جسدية، ومن هنا، فإن ثنائية من قبيل: الثقافي والطبيعي تبدو غير موثوقة تمامًا، لأن ما هو طبيعي قد ينتج ما هو معرفة، لكنها معرفة غير مكتوبة، ولا تتحول إلى لغة، فالنساء اللواتي ينجبن لا يجدن "ميلًا" إلى الكلام، بحسب هيوستن، وبدلًا من التفكير في حل أسئلة الإنسان الوجودية، فإنهن يمارسنها يوميًا عبر تطوير العلاقة مع الطفل ومراقبته والتعامل معه، وينتجن، بالتالي، معرفتهن غير المعبَّر عنها، بينما تبقى المعرفة الرسمية أو هذا "الثقافي" الذي يقابل جسدها الطبيعي محتكرًا الصوت، ومتحدثًا عن الأمومة.

| عندما تكون الأمومة صوتًا أو كتابة

تجربة الكاتبة التركية إيليف شفق في كتابها حليب أسود تبدو أشد إرباكًا، إذ تكتبه عن تلك الصدمة الأولى لاكتشافها المعنى الطبيعي لجسدها، بعد أن كانت ترفضه، لأنها فضَّلت مهنة الكتابة، التي رأت أنها -ولا بدَّ- تتناقض مع فكرة الأمومة.
 
ولكن شفق، وبعد خضوها تجربة الولادة، ومن ثم تجربتها في كتابة الكتاب، الذي اشتقت اسمه من بياض حليب الرضاعة، وسواد حبر الكتابة، ليصبح حليب أسود.
 
تقول:  "قصة مواجهتي لتعددي الداخلي، وكيف تعلمتُ أن أتَّحد وأصير واحدة"[10]. أي أن تحل هذا التناقض بين الكتابة والأمومة، بين العقل والجسد، بين اللغة والواقع.

وإذا كانت هيوستن قد كتبت كتابها هذا بعد تجاوز مرحلة التربية بسنوات عديدة، فإن تجربة الكاتبة التركية إيليف شفق في كتابها حليب أسود تبدو أشد إرباكًا، إذ تكتبه عن تلك الصدمة الأولى لاكتشافها المعنى الطبيعي لجسدها، بعد أن كانت ترفضه، لأنها فضَّلت مهنة الكتابة، التي رأت أنها -ولا بدَّ- تتناقض مع فكرة الأمومة.

تصف شفق تجربة طويلة من التردد بين فكرة الأمومة وفكرة الكتابة، فالمؤلفة التي نشرت روايتها لقيطة إسطنبول وكانت قد لاقت ترحيبًا كبيرًا، كانت خائفة من أن هذا الجسد الذي لن يكون وحيدًا، لن يدع خيالها يحلق من جديد، وفي ذات الوقت، خافت من فكرة وحدته الأبدية، فكما قالت هيوستن: "ثمة تذكير دائم في هذا الجسد بإمكانية الأمومة".

في مقدمة الكتاب، تقارن المترجِمة بين تجربتي فرجينيا وولف وإيليف شفق، فإذا كانت وولف قد عانت من الشروط الاجتماعية والثقافية، والتي اختصرتها رمزيًا بعدم وجود غرفة تخصُّ المرأة وحدَها، فإن شفق الكاتبة التي كتبت رواياتها ونشرتها وسافرت إلى أمريكا وحدها لم تعد تعاني من عدم وجود غرفة تخصها وحدها، إنها تعاني من إشكالية أخرى، وهي أنَّ "الأنثى الكاتبة يعترضها شرطٌ وجوديٌّ آخر، شرطٌ طبيعي ينتصب بعد تجارب الحب والزواج، ألا وهو الولادة والأمومة. وهو شرطٌ يستدعي معه، أيضًا، صراعًا نفسيًا لا يقل عن صراع الأنثى مع شياطين القوانين الاجتماعية والثقافية"[9].

بالنسبة إلى شفق، فإنها تقول عن تجربتها في كتابة الكتاب، الذي اشتقت اسمه من بياض حليب الرضاعة، وسواد حبر الكتابة، ليصبح حليب أسود، أنه "قصة مواجهتي لتعددي الداخلي، وكيف تعلمتُ أن أتَّحد وأصير واحدة"[10]. أي أن تحل هذا التناقض بين الكتابة والأمومة، بين العقل والجسد، بين اللغة والواقع.

قبل المرور بتجربة الحمل، حين كانت شفق لا تزال محافظة على ردائها الأسود الذي يرفض إظهار أنوثتها باعتبارها تهمة جسد، كانت تصف نفسها بأنها "تمثيل واهن لجنسي"[11]. كانت ترى ممارسة الأنوثة ممارسة أدائية غير قادرة على القيام بها، بينما تقوم بها هؤلاء النسوة اللواتي يحسنَّ تزيين أنفسهن وكأنهن يتثاءبن. تبدو وكأنها تعرض مشكلة المرأة المثقفة التي تضطر للتوفيق بين متطلبات جسد يؤدي دوره عبر التجمُّل، بينما الثقافة لا تحتمل هذا التزيين، الذي يبدو تافهًا، كانت وكأنها تريد أن تقول إن جسدها أنثويٌّ مع وقف التنفيذ.

في لقاء شفق مع كاتبةٍ تركية مسنة، وحين تسألها عن الإنجاب، ترد شفق السؤال إليها، فتجيب عبر ثنائيةٍ واضحة: "أعتقد أن على الكاتبات، في لحظةٍ ما من حياتهن، أن يتخذن قرارًا واضحًا. على الأقل هذا ما حدث لي، قررت ألا أنجب، وأن أكرِّس نفسي للكتابة. كنتُ محظوظة، إذ إن زوجي قد دعمني في هذا الخيار الصعب. كان من المستحيل المضي في قرار كهذا لولا تأييده"[12]. الكاتبة تصف هذا القرار بالصعب أولًا، ثم يأتي التأييد الذكوري كدافع يمنح هذا القرار الصعب بالشرعية. غير أن شفق لم تستطع الوصول إلى هذا القرار بهذه السهولة، كانت دائمًا هناك تقديرات للاحتمال الآخر: إذا أنجبت وإذا لم تنجب، في أحد أصواتها الداخلية كانت ترى أن الأمرين متطابقان، كانت تخاطب نفسها بالقول: "سينتهي بك الأمر إلى حسد الآخر على اختياره المخالف، وستشعرين بعدم الرضا الوجودي"[13].

تعكس كلمة "جسد الآخر"، و"عدم الرضا الوجودي" الصعوبة الحقيقية لمثل ذلك الخيار، سواء بالنفي أو بالإيجاب، عن صعوبة الحالة التي تعايشها المرأة مع إمكانات جسدها، اغترابها عن ذاتيته حين لا يكون واحدًا، أو افتقارها لإمكانيته في احتضان آخر، وتحقيق نوع من اختبار كل ما يمكن أن يقوم به. يتطلب أي موقف دفاعًا راديكاليًا ليبدو مرضيًا ومقنعًا، وهو ما ستفعله سيمون دي بوفوار حين تخصص صفحات طويلة جدًا لتبين أن الأمومة ليست مثالية، وأن الأمهات ليسن ملائكة الرحمة، وأن الحمل مجرد خيار عابر، قد تقدم عليه المرأة أو تتركه ببساطة، لكننا سنلمح تحت كل هذه الصفات السلبية لفعل الأمومة، ليس نفورًا موضوعيًا، بل محاولة راديكالية لإقناع الذات بأن هذا ممكن، تمامًا كما ستفعل شفق، ومن قبلها هيوستن، باعتبار الأمومة منظورًا للحياة والعالم، وإن كان موقف دي بوفوار أشد راديكالية، لأنه ليس معارضةً لإمكانات جسدها ذاته، بل للمؤسسة الاجتماعية بأكملها.

لقد كان قرار شفق بالإنجاب، يتطلَّب منها أن "تطعم كتب سيمون دي بوفوار للنار" أثناء الحمل، لقد أصبحت امرأةً أخرى، ويجب من الآن فصاعدًا أن تتخذ موقفًا راديكاليًا تجاه الموقف السلبي من الأمومة، لا يمكن لها أن تكون في الموقعين معًا.

| سيمون دي بوفوار ومي زيادة: رفض الإمكان الآخر للجسد

ث34.png
سيمون دي بفوار ومي زيادة 

لقد اختارت دي بوفوار عدم استخدام الإمكان البيولوجي لجسدها في أن تكون أمًا، ورفضت أن ترى جسدها يتحولا إلى بطنٍ منفوخ، وثديين مكتنزين بالحليب، لكن هذا الرفض كان لا بد أن يكون راديكاليًا، لأنه أدى بها إلى موقف "معادٍ" للأمومة.

في الجزء الثاني من كتابها الجنس الآخر تتناول دي بوفوار الأدوار الاجتماعية التي تقوم بها المرأة، ومن ضمنها دور الأمومة، تحلله وفقًا لتجارب نساء واعترافاتهن بشأن موضوع الأمومة. الغريب أنها لا تقدم حالةً واحدة إيجابية، تبدو نساء دي بوفوار جميعهن كأنهن خارجات للتو من عيادة نفسية لسيجموند فرويد، فيعانين من اضطرابات الشعور في تجربتهن الأمومية، سواء الاغتراب أو الانفصام أو الغيرة أو التوحد أو حتى المشاعر الجنسية التعويضية، لا تعرض دي بوفوار نموذجًا واحدًا لأم تقول إنها سعيدة بهذه التجربة.

لكنها في ذات الوقت، لا تستطيع الإقرار ببساطة هذه التجربة، أو تفاهتها، إنها تراها تجربة للتناقض؛ إذ أن "الحمل هو بشكل خاص مأساة تدور لدى المرأة بينها وبين نفسها، تشعر بها غنى وبترًا في آنٍ معًا، الجنين جزءٌ من جسدها، وهو طفيلي يستغلها، يتملكها ويملكها، يختصر كل المستقبل، وعندما تحمله تشعر أنها واسعةٌ كالعالم، لكن هذا الغنى نفسه يفنيها، لديها انطباعُ بأنها لم تعد شيئًا[14].

لكن اللافت هو تعريف الحمل كمأساة للمرأة، ومن ثم الانحياز إلى كونه يفنيها تمامًا، وبالرغم من أن دي بوفوار لم تجربه، فإنها تستمر في تحليله طويلًا، فهل كانت هذه خيالات امرأة قلقة وجودية خائفة على حريتها، وعلى جسدها من الاعتداء، من لحظةٍ يكون فيها "مثنى لا مفردًا؟

بعد سردٍ طويل، تصف فيه دي بوفوار النساء اللواتي يحبذن تكرار تجربة الحمل بأنهن "بياضات"، وكأنه مجاز يحيلهن إلى مملكة الحيوان، حيث الغريزة والجسد وسيطرته، وهي التي ترفض حريتها الوجودية أي شروط وقيود، بالطبع، تراه فعلًا مهينًا، بعد هذا السرد ترى أن "الخداع يبدأ عندما يعلن تقديس الأمومة أن كل الأمهات مثاليات. لأنه قد يكون تفاني الأم أصليًا، ولكن ذلك نادر"[15]. فمن أين أتت دي بوفوار بهذا الحكم؟ ومن الذي قال إن تفاني الأمهات نادر؟ هل كانت دي بوفوار تدافع عن قراراها استنادًا إلى جدار أخلاقي من خلال الشك في تفاني الأمهات؟

ليس بعيدًا عن دي بوفوار، يقرأ عبد الله الغذامي أدب مي زيادة من ذات المنظور، متتبعًا الطريقة التي تصف بها النساء ذوات الأثداء المترهلة، والبطون المنتفخة، فيرى أنها "تريد جسدًا دون جسد، وتريد القلم والكتابة، غير أنها لما تزل ترى أن الجسد المؤنَّث تركةٌ من تركات الظلام الحالك، وليس -بعد- مقبولًا في زمن النهار الساطع. والمبدعة هي من تحبل باللغة وليست -بعد- من تحبل بالأطفال، وينتفخ بطنها ونهدها. تلك هي عقدة النص ومعضلة الكتابة لدى غادة السمان"[16]. وهذا ما دعا الغذامي للقول بأنه لا يشترط أن يكون الأدب أنثويًا، لمجرد أن تكتبه امرأة، فربما كان الصوت ذكوريًا، والكاتبة امرأة.

وهنا، يشكِّل جسد المرأة إشكالية تسيطر على معظم التنظيرات بشأن المرأة، والمعضلة الذي تتصل بهذا الجسد وهي إمكانية الحمل والإنجاب، بحيث يبدو منطويًا على تناقضات عدة، تسبب تأزمًا في نظرة المرأة لنفسها، بقدر ما هي نظرة الرجل له. وإذا كانت النسوية الحقوقية تتعامل مع هذا الجسد بوصفه محايدًا في معركتها، فإن المعركة الجندرية تتخذ من تأويله الثقافي موضوعها الأول الذي يترتب عليه تغيير شمولي لمفهوم "المرأة". لكن وفي كل الأحوال: ظل هذا الخطاب، كما هو الجسد، يحتوي على تناقضات تجعله يشتمل على ضده داخل بنيته ذاتها.

 

 

 

[1] كاميلي باليا، أقنعة جنسية، ص 36.

[2] نانسي هيوستن، أساتذة اليأس، ترجمة وليد السويركي (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، نوفمبر2012)، ص12

[3] المرجع نفسه، ص20

[4] المرجع نفسه، ص36

[5] المرجع نفسه، ص 38

[6] المرجع نفسه، ص35

[8] المرجع نفسه، ص 34

[9] إيليف شفق، حليب أسود، "مقدمة المترجمة"، ص 8

[10] المرجع نفسه، ص 16

[11] المرجع نفسه، ص39.

[12] المرجع نفسه، ص 55.

[13] المرجع نفسه، ص 97

[14] سيمون دو بوفوار، الجنس الآخر- الوقائع الحياتية. ترجمة سحر سعيد، ( دمشق: الرحبة للنشر والتوزيع،2015)، ص 280.

[15] المرجع نفسه، ص 297.

[16] عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص167.