بنفسج

عبد الوهاب المسيري: المرأة الطبيعية والتأويل الأخلاقي للجسد

الثلاثاء 15 سبتمبر

في السياق العام الذي قرأ فيه المسيري الحضارة الأوروبية بوصفها حضارة الإنسان ذو البعد الواحد، أو "الإنسان الطبيعي" في مقابل "الإنسان الإنسان" المتكون من ثنائيات روحية ومادية، يقرأ المرأة في سياق الجندر، ليرى أنه "بعد أن تتحول المرأة من إنسان إنسان إلى كائن طبيعي/ مادي يرد إلى عناصر مادية ويُفَسَّر في إطارها، بحيث لا تشير المرأة إلى ذاتها، وإنما إلى الطبيعة/ المادة، يتم تسويتها بالرجل أو الإنسان الطبيعي في جميع الوجوه، بحيث لا تختلف عن دوره، فكلاهما إنسان طبيعي/ مادي، وما يجمعهما ليس إنسانيتهما المشتركة، وإنما ماديتهما المشتركة، فيتم اختزالهما إلى مستوى طبيعي/ مادي عام واحد لا يكترث بذكورة الذكر أو أنوثة الأنثى أو يسوِّي بينهما"[1].

| المسيري في التأويل الأخلاقي لجسد المرأة 

نظرة المسيري إلى جسد المرأة هي النظرة الأخلاقية التقليدية ذاتها: إنها لا تنكره، لكنها لا تؤوله فلسفيًا، بل أخلاقيًا، من حيث كونه وسيلة للتمايز الهوياتي بين الرجل والمرأة.
 
وهو قلق بشأن تعرية هذا الجسد من أي تأويل ثقافي، للاعتراف به كجسد وحسب، إن التأويل الثقافي يحافظ على الثنائية ضد حالة السيولة أو الواحدية الأوروبية التي تهدد النظام القيمي.
 
إن تعرية الثقافية لجسد المرأة، تهدد مؤسسة الأسرة بحسب المسيري، فبسقوط المرأة الأم، والزوجة تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني المشترك. 

نظرة المسيري إلى جسد المرأة هي النظرة الأخلاقية التقليدية ذاتها: إنها لا تنكره، لكنها لا تؤوله فلسفيًا، بل أخلاقيًا، من حيث كونه وسيلة للتمايز الهوياتي بين الرجل والمرأة، وهو قلق بشأن تعرية هذا الجسد من أي تأويل ثقافي، للاعتراف به كجسد وحسب، إن التأويل الثقافي يحافظ على الثنائية ضد حالة السيولة أو الواحدية الأوروبية التي تهدد النظام القيمي، وهو إذ يدافع عن القيم يبدأ من المرأة لا من الرجل، وكأن خطر الجندر هو غياب تأويل الجسد الأنثوي فحسب.

ينتقل المسيري من الحديث عن هذه التسوية الواحدية الطبيعية إلى الحديث عن قيم الأسرة والعائلة، وذلك بسبب سقوط المرأة، فيرى أنه "بسقوط الأم والزوجة والمرأة، تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني المشترك، ويصبح كل البشر أفرادًا طبيعيين لكلٍّ مصلحته الخاصة وقصته الصغرى؛ كل إنسان مثل الذرة التي تصطدم بالذرات الأخرى وتتصارع معها، والجميع يجابهون الدولة وقطاع اللذة والإعلانات بمفردهم، ويسقطون في قبضة الصيرورة، ويتم تسوية الجميع بالأشياء والحيوانات"[2].

إن تأكيدات مثل تأكيدات المسيري على القيمية الأخلاقية للتأويل الثقافي للجسد الأنثوي، ومن ثم الدور الاجتماعي المرتبط به، في مقابل نظريات الجندر التي تمس الرجال والنساء معًا، يُظْهِر بطريقةٍ أو بأخرى أن تلقي الخطاب النسوي حول الجندر لم يكن سوى تلقٍ ذكوري جديد يبعد عن نفسه أي إمكانية لنفي ذكورته، لأن الذكورة غير مهددة، ولن يوجد رجل يرغب في أن يصبح شيئًا آخر، لذا، فإن الرد عليه لا يكون ذا معنى. تتركز نقاشات الجندر حول المرأة، وتدرس كامتداد للنسوية، أو كمرحلة ما بعد النسوية الحقوقية والمطالبة بالمساواة، لكنها لا تُدرس في تاريخ الذكورة.

| بتلر واللاجندر: مرة أخرى 

بتلر.png
جوديث بتلر

وربما يسهم نموذج جوديث بتلر في فهم مبررات التلقي الذكوري، فيمكن حين نرى بتلر على الشاشة أن نحتار: هل هي رجل أم امرأة؟ ستكون هناك شكوك حول تصنيفها الجنسي، من ناحية الجسد الذي لا زال يحمل تصنيفًا أنثويًا، والأداء الذي يحيل إلى أداءٍ ذكوري، وطريقة ارتداء الملابس السوداء الواسعة التي لا تحيل إلى جندر، بل إلى أداء يسعى إلى إدارة انطباع حول اللاهوية التي تسعى إليها، وفق أقنعة جوفمان.

إن بتلر في النهاية، ومهما يكن الأمر، لم تتخلص من التصنيف، ومن فكرة الجندر أيضًا، لقد حاولت التخلص من المرأة لتصبح شيئًا آخرا، لكنها في النهاية ستُصنَّف بطريقة تجزيئية: الشعر رجولي، الصوت أنثوي، الأداء رجولي، المشية رجولية، وهكذا.

وهي حين تتحدث عن الموقف الذي مرت به، حين سألتها فتاة هل أنتِ مثلية؟ يختزل عملية التصنيف، مثلية ببساطة يعني امرأة تقوم بأداء جنسي رجولي، لكنها في النهاية امرأة. يعني أن الجنس الآخر، أو اللاجندر، فكرة غير متحققة عمليًا حتى الآن، الممكن هو هذا المزج فقط، والمزج ليس ثالثًا. إن بتلر وهي تنظِّر للجندر ولكونه غير طبيعي تقرُّ بقوته، لكنها في الواقع -وعمليًا- تحاول مقاومته عبر رفضه.

حين تحاول بتلر التخلص من صورة المرأة، فإنها تحاول أن تتخلص بداية من مظاهر الجسد الأنثوي، وهذا دلالة على إشكالية الجسد في التصنيف الجندري، والجسد الأنثوي بالخصوص.

إن جسد المرأة يحمل أبرز تناقضاته عبر ثنائياته اللازمة: فذات الجسد الذي يستخدم لتحقيق متعة الذات ووجودها، هو ذاته الجسد الذي يستخدم لخدمة كائن آخر، مختلف عنه يقع داخله وخارجه، إنه الجسد صاحب وظيفة الإثارة والمتعة والمعنى الأخلاقي الوجودي في ذات الوقت، وثديا المتعة والشهوة هما ذاتهما ثديا الرضاعة المقدَّسة. إنه يعيش -وحده- لحظته الوجودية الكبرى التي يكون فيها اثنين، لا واحدًا. وهذا ما يؤدي إلى قلقه واغترابه أحيانًا، وتقديسه للذات الأنثوية الطبيعية المحضة أحيانا أخرى، إنه جسد مشكلٌ، هذا ما يؤدي إلى كل هذه النقاشات حوله.

 

[1] عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى (القاهرة: نهضة مصر للنشر والطباعة والتوزيع،2010)، ص29

[2] المرجع نفسه، ص 30.